«أمة على رسلها» .. استشراق مضاد قادم من حضارة العرب

«أمة على رسلها» .. استشراق مضاد قادم من حضارة العرب
الحضارات العريقة على مر العصور لم تعرف نفسها على أنها ذات حضارة.
«أمة على رسلها» .. استشراق مضاد قادم من حضارة العرب
يضم الكتاب 12 فصلا، وهو في أصله 12 ورقة كتبتها الأميرة مها الفيصل في مدد زمنية مختلفة.
«أمة على رسلها» .. استشراق مضاد قادم من حضارة العرب

حفظ العرب جوهر عبقريات الأمم والحضارات التي سادت ثم بادت، ثم أضافوا وصححوا وبنوا مجدهم الفكري المشهود، ورغم تلك الجهود كلها، يطرح التساؤل التالي نفسه: من سرق من العرب حضارتهم؟
في كتابها الثري "أمة على رسلها: تأملات من بلاد العرب"، تفند الأميرة مها بنت محمد الفيصل المسرديات الكلاسيكية الخاطئة والأكاذيب التاريخية التي تنفي دور العرب في بناء التاريخ الفكري والحضاري الإنساني، في استشراق مضاد كما يصح تسميته، قادم من بلاد العرب وبقلم قارئة فاحصة للتاريخ الأوروبي والكنسي، وعارفة بتاريخ الأفكار والتيارات الإيديولوجية المتصارعة، تدعو لأن يكتب العرب قصتهم بأنفسهم.
«الثقافة» وابنتها المزعومة «الحضارة»
تتبصر الأميرة مها الفيصل، الأمين العام لمركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية في معنى "الحضارة"، الكلمة العاجزة عن احتواء التجربة البشرية المتنوعة، لتلفت الانتباه في كتابها إلى أن الحضارات العريقة على مر العصور لم تعرف نفسها على أنها ذات حضارة، وتطرح السؤال: لماذا؟
وتتابع على صفحات كتابها بأن مصطلح "الحضارة" فكرة حديثة مختلفة عما يقصده ابن خلدون، فهم محدث وكلمة ابتدعت في حقبة التنوير كمعين لفهم العالم - بعيد زمن الاكتشافات الكبرى - من منطلق منظور غربي تقدمي لاديني، وأصبح لهذا المفهوم المبتكر قيمة ذاتية غائية، فكلما خفت نبراس الدين اشتعل وهج "الحضارة" وتعاظمت أهميتها، لتصبح غاية تسعى إليها البشرية ومعيارا تصوب نحوه الآمال، وما تعنيه فعليا هو التمثل الكامل للتمدن الأوروبي لا غير، ولكن المتبصر في معنى "الحضارة" يجدها كلمة عاجزة عن احتواء التجربة البشرية بإرهاصاتها المتنوعة، والعمل على جعلها المحصلة الأعلى للقيم البشرية أمر يدعو إلى العجب.
ولعل ابتداع هذا المفهوم الأجوف من قبل بعض الشعوب، جاء لتجعل منه المعيار الأعلى والنموذج الأسمى للتطلع الإنساني، وأخذت البشرية جمعاء تنكب على وجوهها أملا في اللحاق به، حيث ظهرت الحاجة إلى هذا المصطلح والأيديولوجية المصاحبة له عند الممالك الجرمانية الفتية التي تغلبت على ما تبقى من حطام الدولة الرومانية بعد خروجها من عزلتها، إلى منطلق حضاري، تقارع به أمما أبعد منها حضارة وأعرق منها إرثا، بما فيه إرثها الديني الذي هو شرقي بامتياز.
كيف نسيت أوروبا إرثها العربي؟
يقول ريمي براج الفيلسوف والمستشرق الفرنسي: "أليس من الممكن أن تكون حماسة الأوروبيين للتغلب على الشعوب الأخرى منبعها هو الإحساس بتلك التبعية الثقافية التي تمثل لب حضارتهم؟"، ويتساءل عما إذا كانت ظاهرتا الاستعمار والأنسنة سببهما أيضا التعويض عن هذا الشعور، وتتفق الأميرة مها الفيصل أن من رحم هذا الشعور كانت ضرورة ولادة ذلك المفهوم المبتكر "الحضارة".
تدعم الفيصل ردها بورقة تحمل عنوان "كيف نسيت أوروبا إرثها العربي؟" لعبدالحق كومبتيه، قال فيها: إن السرد التقليدي المتعارف عليه والمقبول لقصة الحضارة الغربية يتحدث أنه قبيل عام 1500 أعادت الكتابات الإغريقية الذاكرة المفقودة لماضي أوروبا الإغريقي الروماني، وبفضل ذلك انطلق عصر من التقدم العلمي والحضاري، والواقع يحكي قصة أخرى، وهي أن التقدم لم يبدأ عام 1500، لكنه بدأ في القرنين الـ11 والـ12 الميلاديين، بفضل نقل علوم حضارة العرب إلى أوروبا"، مشيرا إلى محاولات لإزالة التأثير العربي ضمن الشرائع والأعراف العلمية والفكرية، واستحكم في أذهان الأوروبيين تصور، بل قناعة، أن المصدر الثقافي الفكري الوحيد لأوروبا هم الإغريق، وما كان لأحد من مفكري أوروبا أن يجرؤ على ذكر مصدر عربي لإلهاماته واكتشافاته الثورية، وقد دعموا هذا الاعتقاد والتكرار والإلحاح المتتالي لهذه السردية، أي سردية إحياء المصادر الكلاسيكية للحضارة الغربية حتى بات التراث العربي لأوروبا مبعدا ومنسيا.
وتعبر مؤلفة الكتاب -الذي يزدان غلافه بصورة الملك فيصل في شبابه- عن دهشتها من أننا أمسينا أشد المدافعين عن هذا الطرح المفضي إلى رفض فضل حضارة العرب على الآخرين، وتتساءل عقب ذلك: ما المنفعة المرجوة بالنسبة لنا؟ لتعلق قائلة: "العجيب أنه أصبح من الدارج أن تقارن أمم هي في حالة ضعف وسقوط مع أمم في أعلى تعبير قوة لها، فلو أردنا أن نقيم مقارنة فعلية بين الثقافة الغربية وثقافة العرب، فلا بد أن تقام هذه المقارنة بين الإمبراطورية العباسية في عهد هارون الرشيد والإمبراطورية الغربية اليوم، ولا شك أن هذه المقارنة وهذا التصور يصعب على من استبطن فكرة المسار الحضاري الموحد".
اعتزاز وانحياز
يبدو كتاب الأميرة مها الفيصل متأثرا في لغته بما سبقه من إصدارات روائية، لتضفي متعة فكرية ولغة سلسة إلى تأملاتها، بالاستفادة من معرفتها وخبرتها بكنوز التراث العربي.
ويمهد للب الكتاب اعتراف، تؤكده الصفحات الأولى منه بما للحضارة الغربية المادية والتقنية اليوم من منجزات للبشرية، واختلاف بين وحصيف مع ما وصلت إليه من مادية استهلاكية وخواء روحي، وذهاب بمفهوم الحرية الفردية إلى أقصاه العدمي، حتى ألغيت كل الحدود الأخلاقية والفطرية، وفي الكتاب أيضا اعتزاز وانحياز، اعتزاز بما للمنجز العربي من فضل حضاري إنساني طيلة قرون ملأ فيها العرب الدنيا، من أطراف الهند والصين حتى الأندلس، علوما ومعارف وأخلاقا وفروسية، ودينا عالميا سمحا انضوت تحته عشرات الشعوب بلغاتها وأديانها وثقافاتها، وانحياز مدرك لأسبقية التراث العربي الإسلامي في كثير من العلوم والمعارف الإنسانية المعاصرة.
ويتزامن صدوره مع انطلاق سلسلة المروية العربية، المشروع متعدد الأبعاد الذي دشنه مركز الملك فيصل أواخر العام الماضي، ويهدف إلى صياغة مروية خاصة بالعرب عن أنفسهم وتاريخهم الذي انطلق من الجزيرة العربية وامتد ليشكل واحدة من أعظم الحضارات البشرية على مر التاريخ، إذ يتضمن مشروع المروية محاضرات وكتبا وإصدارات بحثية موزعة على عدد من فروع المعرفة، فيما يعد كتاب "أمة على رسلها: تأملات من بلاد العرب" باكورة إصدارات هذه السلسلة، ويهتدى به لمعالجة الالتباس والتراجع الواقعين في مفهوم حضارة العرب، والمحاولات الدؤوب لطمس وتهميش الاستحقاق الحضاري العربي، عن عمد وغير عمد، في كثير من الدراسات المعاصرة.
العرب ترجمان الحضارات
تناقش الأميرة مها الفيصل عددا من الموضوعات بالحجج والبراهين والأدلة، ومنها "التمدن القبلي"، ففي الوقت الذي يحاول فيه البعض اختزال القبلية الرشيدة في نمط بدائي، مؤسس على قاعدة من العلاقات الاجتماعية الجامدة، محدد ببناء تراتبي صلب، وفي هذا الطرح إجحاف لعبقرية التكوين القبلي، فواقع القبيلة الممتد تاريخيا وجغرافيا لهو دليل على أن القبلية تمثل أحد أنجع حلول الاجتماع البشري.
كما تفند زعم كثير من مفكري الغرب أن العرب لم يكونوا سوى ناقلين للحضارة الإغريقية، وهذا تقرير مجحف لا يقبل به أحد اليوم، إذ إن بلاد العرب كانت قبل دخول الإسلام تمثل حواضن للفكر الإغريقي، وبعد الإسلام قدمت قراءة منتقاة وعظيمة لإرث الإغريق، أعادت إحياءه وصححت عليه بعد طول سباته.
أمة مطمئنة
"أمة على رسلها" هي ترجمة لـ"أمة مطمئنة"، ويقصد بها أمة العرب بحسب وصف كتب العهد القديم العبراني المسيحي، الأمة التي خرج دينهم من بلادهم، وبلغتهم، ونزل على فرد منهم، فهم الأصل والمنبع لثقافتهم عبر القرون، والنبع الذي تسقى منه الحضارة العربية الإسلامية الواسعة. الكتاب الصادر عن مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، ويقع في نحو 250 صفحة من القطع المتوسط، تهديه مؤلفته إلى الأميرة سارة بنت فيصل بن عبدالعزيز التي ألهمتها الكتاب، فهو يشحذ الهمم، ويناشد العرب المشتغلين بالمعرفة والتاريخ أن ينتبهوا للكنوز في موروثهم، وألا يستسلموا للسرديات التاريخية التي تكتب اليوم بغرض وعن جهل.
يضم الكتاب 12 فصلا، وهو في أصله 12 ورقة كتبتها الأميرة مها الفيصل في مدد زمنية مختلفة، تناولت موضوعا محددا من شواغلها الفكرية، يعالج فيها مفاهيم الثقافة والحضارة، ويحمل في طياته تأملات في التاريخ الأوروبي والعربي، ومقاربة لمصطلح الحضارة العربية والإسلامية، إضافة إلى فصول منها: حضارة العرب وارتباك المرجعيات، الأنسنة والفصام التأويلي، في تأملات شملت أوسع حصر ممكن لآراء المؤلفين والدارسين في الحضارة العربية من مختلف العصور، سواء كانوا فلاسفة أو مؤرخين أو علماء نفس أو شعراء، في جهد مضن تطلب قراءة مكتبة أوروبية كاملة وبلغات متعددة.
موضوعات كثيرة تناولها كتاب "أمة على رسلها"، الإصدار الرابع للأميرة مها الفيصل بعد أعمالها الروائية والقصصية، يكشف في مجمله عن باحثة غيورة على ماضي العرب وحاضرهم ومستقبلهم المنتظر، تخوض رحلة معرفية إحقاقا للحق والتاريخ.

سمات

الأكثر قراءة