في «اعترافات لص كتب تائب»: الأدب سيبقى رياضة فكرية

في «اعترافات لص كتب تائب»: الأدب سيبقى رياضة فكرية
الكاتب جمال جمعة.
في «اعترافات لص كتب تائب»: الأدب سيبقى رياضة فكرية
الجلوس في عزلة أفكارك هو بحد ذاته فن، عندما يتم ذلك عن قصد.

يعترف ديستويفسكي في رسائله "الكتب هي حياتي، هي طعامي، هي مستقبلي"، وربما ذلك أيضا كان شعور لص الكتب التائب، الذي سجل اعترافه في مقال له، متناولا كتب سرقها وتأثيرها في حياته.
وفي كتاب "اعترافات لص كتب تائب"، المستوحى عنوانه من مقالة للكاتب تروي ويفر، مقالات تخبرنا كيف يمكن للكتب أن تنقذ حياتك، وحبسة الكاتب، وفن العزلة، ولماذا يكون الأطباء بطبيعتهم أدباء، وغيرها من الملفات الماتعة، التي تخرج بقناعات وتأملات قد تغير نظرة قارئها نحو الحياة.
اللص الشفاف
لص الكتب التائب تروي ويفر، يعترف بأنه كان يتصفح الكتب لساعة في المتجر، يحمل ما يريده، إذ يحشر كتابا في حزامه، ويتجه عند الباب، كاشفا بكل شفافية أنه سرق من 20 إلى 30 كتابا بهذه الطريقة، دون أن يشعر بنفسه مذنبا ولو لمرة واحدة، كان ذلك يشعره بأنه يعيش، ليست سرقة الكتب وإنما قراءتها، جعلته يشعر بأنه أقل وحدة في هذا العالم.
ويفر سجل مشاعره في مقال قال فيه إن القراءة هي عملية اتصال مع تجربة، داخل الصفحات وخارجها، والتجربة هي أثمن ما في الحياة، فالحياة تصبح خيالا والخيال يصبح ذاكرة، وقد أنقذت القراءة حياته بطريقة ما، لأنها فتحت بصيرته نحو تيار لا نهائي من الاحتمالات، وجعلته مع مرور الزمن يدرك أن جميع البشر ينزفون على حد سواء "نحن جميعا نتألم ونضحك ونحب ونكره ونبتسم، لا نفعل كل هذه الأشياء بالأسلوب ذاته، لكننا نعرف أهمية معانيها"، كما أن القراءة هي سعي حثيث من ماض ومعانقة له، وقد جعلتني الكتب أشعر بأنها يمكن أن تعيش خلالنا جميعا.
أيتام الأدب
يطلق مايكل لابوينت في إحدى مقالات الكتاب لقب "أيتام الأدب" على الكتب التي يتنصل أصحابها منها، أو يرفضونها، أو يحرقونها، وهو لفظ مجازي حينما يندم المؤلف على كتابتها، فهي ليست يتيمة بقدر ما هي محرومة من الإرث، مستشهدا بماي هوتون التي كتبت رواية تشهيرية عن المعاملة البائسة التي يلقاها عمال المناجم في إيداهو، وفي وقت لاحق من حياتها، بعدما أصبحت شخصيا مالكة منجم ثرية، حاولت إعادة شراء كل نسخة من كتابها، إلى جانب كتاب آخرين طعنوا في كتبهم، وآخرين يميلون إلى التنصل الأدبي، مثل أفضل الاغتيالات التي تحدث في صمت، كالحذف والإغفال.
"إذا كنت تكتبين ما تعتقدين، وتشعرين في قرارة نفسك بأنه مهم، فستثيرين اهتمام الناس"، هذه نصيحة الكاتبة وعالمة الأحياء البحرية راشيل كارسون لفتاة عمياء كانت تطمح لأن تكون كاتبة، وعطفا على هذه النصيحة، هناك فتاة تبلغ من عمرها 16 عاما، تلقب نفسها بأنها كاتبة شابة وطموحة، استطاعت أن تتصل بالكاتب ت. س. إليوت، أكثر الكتاب شهرة في العالم تلك اللحظة، على أمل الإجابة عن بضعة أسئلة عن العملية الإبداعية، وماذا يستلزم المرء لكي يكون كاتبا، فيجيبها "نصيحتي إلى الكتاب الجدد والقادمين هي ألا تكتب في البداية لأي أحد غير نفسك، لا يهم كثرة أو قلة عدد الجامعات التي درس المرء فيها، ما يهم هو ما يتعلمه، سواء كان ذلك في الجامعة أو بوساطة نفسه".
فن العزلة
الجلوس في عزلة أفكارك هو بحد ذاته فن، عندما يتم ذلك عن قصد، الفنان فان جوخ، رجل العزلة الناعمة، كتب في رسالة إلى والدته ذات مرة "بالنسبة لي قد تستمر الحياة في العزلة، لم أدرك أبدا أولئك الذين كنت أشد ارتباطا بهم سوى من خلال زجاج، على نحو مظلم"، فهو في خضم وحدته يشعر بعمق شديد.
في العزلة، وفقا لمقال عائشة حبيب في الكتاب، يجد المرء نفورا متناقضا للمجتمع، وفي الوقت نفسه فهما حميما للطبيعة البشرية، ونقلت عن دي مونتين بأن العزلة هي تحويل نفسك إلى بيت، حيث ترحب بنفسك برفق، وهي السبيل لإيجاد السلام في الداخل.
وفي سياق أدبي مقارب، جاء بعنوان "من يحتاج إلى الأدب؟"، يخشى البولندي إسحاق باشفيس سينغر أن تصل البشرية بأسرها عاجلا أو آجلا إلى استنتاج أن قراءة الرواية مضيعة للوقت، فقيمة الخيال الأدبي ليست فقط لقدرته على تسلية القراء وتعليمهم شيئا ما معا، ولكن لأنه أيضا بمنزلة رياضة، وتحد فكري، فنحن نستطيع الهبوط الآن على قمة جبل إيفرست بوساطة هليكوبتر، وسيكون من المؤسف إذا لم نعد نحاول التسلق إلى القمة.
ويتنبأ سينغر بأن الأدب سيظل على قيد الحياة وكأنه رياضة فكرية، لكنها ستكون رياضة لا يمارسها غير الأشخاص الذين يلعبونها، إضافة إلى عدد قليل من الهواة، ويخشى من اليوم الذي يصبح فيه الخيال الأدبي محض رياضة، ويرى أن ذلك حدث حقيقة مع الشعر، يتم الآن - وفقا للكاتب - قراءة الشعر بشكل شبه حصري تقريبا من قبل الشعراء فقط، في أرض غنية كالولايات المتحدة، في الأغلب ما تطبع الأعمال الشعرية بـ500 نسخة، جزء كبير منها يوزعه الشعراء أنفسهم على أصدقائهم.
أما بالنسبة إلى النثر الأدبي، فغالبا ما نشعر أن أموره تسير بشكل حسن، فكتب النثر تباع بمئات الآلاف من النسخ، تحت العلامة التجارية "رواية"، التي يكون في الواقع ثلاثة أرباعها أو كلها صحافة، ولم يحدث في أي وقت آخر أن كانت الحدود بين الصحافة والأدب ضئيلة للغاية وغائمة كما هي الحال في وقتنا الحاضر، إذ يبدو أن النقاد المعاصرين يعانون فقدان الذاكرة، ونسوا المبادئ الأولية للعبة التي تسمى "الأدب".
استدعاء الذاكرة
يطرح الكتاب تساؤلات عدة، منها سؤال "لماذا ننسى معظم الكتب التي نقرأها؟"، وتجيب الكاتبة جولي بيك عن تساؤل لمحررة عروض الكتب في صحيفة نيويورك تايمز باميلا باول - والتي تقرأ كثيرا من الكتب - "رغم أنني أتذكر الطبعة، الغلاف، وعادة ما أتذكر من أين ابتعته، ما لا أتذكره هو أي شيء آخر"، وهو أمر فظيع.
وهذه مشكلة عامة يعانيها الجميع، ولكن في عصر الإنترنت أضحى ما يوجد "استدعاء الذاكرة"، والقدرة على استحضار المعلومات، ويقال إنه ما دمت تعرف أين هي المعلومات وكيف الوصول إليها، فإنك لا تحتاج في الحقيقة إلى تذكرها، وربما هذه الكلمات تطمئن قراء الكتاب، ومشاهدي الأفلام أيضا.
كتاب "اعترافات لص كتب تائب" الصادر عن دار المأمون للترجمة والنشر، يأتي بدعم من وزارة النفط العراقية، ضمن مبادرة ترجمة 100 كتاب، ويضم 50 مقالا مترجما، من اختيار وترجمة جمال جمعة الذي دأب لعامين متواصلين على ترجمة هذه المقالات المكتوبة باللغتين الإنجليزية والدنماركية، اختارها وفق حدس يستشعر أهميتها وذائقة أديب ينشد الفن للفن.

سمات

الأكثر قراءة