الخير في شهر الخير

نقف على عتبات نهاية رمضان شهر الخير. ويصوم المسلمون الشهر لأنه واجب عقائدي، الهدف الأول والأساس من صومه هو نيل رضا المولى سبحانه، ومنافع أخروية لا تقدر بثمن دنيوي. وللصيام تكاليف متعددة من بينها كما يبدو للناظر بعض الآثار الاقتصادية السلبية، التي من أبرزها تراجع ساعات العمل وانخفاض الإنتاجية في بعض القطاعات. في الجانب المقابل، هناك شواهد على جني منافع دنيوية متعددة لصيام رمضان قد لا يكون بعضها اقتصاديا، لكنها ذات نفع كبير للإنسان. ومن أهم تلك المنافع تقوية الإرادة، وتهذيب النفس، وتعويدها على تجنب المحرمات، وتحسين العلاقات الاجتماعية والأسرية، وتربية الأنفس على الالتزام، والحد من التجاوزات غير المشروعة والمحرمة. كما أن للصوم منافع صحية وتربوية فرمضان شهر الصبر والتربية والتعود على كبت الشهوات.
من الناحية الاقتصادية، يتراجع إنتاج بعض القطاعات في بلاد المسلمين سلبا بالصوم بسبب تراجع الإنتاجية وساعات العمل. وانخفاض الإنتاجية ظاهرة واضحة في رمضان، لكنه ليس شرطا من شروط الصوم وإنما يرجع إلى تصرفات البشر. صحيح أن التوقف عن شرب السوائل وأكل الطعام يؤثر سلبا في نشاط الإنسان خلال اليوم خصوصا في أيام الصيف الطويلة، وفي الدول التي ترتفع فيها الحرارة وتطول فيها أيام النهار. ويمكن تعويض نقص الإنتاجية في نهار رمضان من خلال تعديل أوقات العمل والمرونة فيها وتخصيص مزيد من الوقت للعمل ليلا، وهذا ما يحدث في كثير من الأنشطة كتجارة الجملة والتجزئة والمطاعم والمقاهي وأماكن الترفيه.
ويتراجع في بعض القطاعات إنتاج الخدمات والسلع، لكن في المقابل تتولد خدمات ومنتجات خاصة بالشهر الكريم ومواسم الأعياد. كما لا يخفى عن العيان الزيادة الكبيرة في إنفاق الأسر الذي يمثل الجزء الأكبر من الإنفاق الكلي. وهذا يدعم الإنفاق الاستهلاكي في قطاعات مختلفة تنتعش في رمضان. وتولد زيادة الإنفاق في رمضان آثارا إيجابية في الإنفاق المحلي وتسهم في رفعه، ما يعكس التأثيرات السلبية في الإنتاج خلال فترات الصوم.
وتستعد الأسر بشكل مبكر لزيادة الاستهلاك في رمضان. وتشير الشواهد المختلفة إلى حدوث طفرة كبيرة في الاستهلاك الأسري تقدرها بعض المصادر بنحو 50 في المائة. وتقوم المؤسسات التجارية والإنتاجية بحملات ترويج إعلامية لمنتجاتها كما تقدم كثيرا من العروض المرتبطة برمضان. وتحفز ممارسات الأعمال زيادة الاستهلاك على منتجات معينة في رمضان. وهناك تركيز واضح على ترويج الطعام، والملابس والهدايا ومنتجات أخرى يتصاعد استهلاكها خلال الشهر. وتنتشر هذه الظاهرة بين المسلمين في جميع أرجاء المعمورة، لكنها تتضاعف في الدول الأعلى دخلا. ويصاحب طفرة استهلاك الطعام خلال هذا الشهر هدر كبير وإسراف مبالغ فيه خصوصا في مجتمعاتنا الخليجية.
من الجوانب الإيجابية خلال الشهر الطفرة الكبيرة في ممارسات الإحسان، حيث تتحفز الأغلبية على زيادة أعمال البر والإنفاق الخيري، ويربط كثيرون بين إخراج الزكاة والشهر الكريم. وهذا بلا شك يساعد كثيرا على سد فجوات تباين الدخل في المجتمع، ومحاربة الفقر، ويرفع عدالة توزيعه بين السكان، ويزيد مستويات العدالة الاجتماعية، ويسهم في تعزيز السلام الاجتماعي.
ويزداد توافد المعتمرين والزوار على مكة المكرمة والمدينة المنورة خلال رمضان، وينفق ملايين المعتمرين من الخارج والداخل مليارات الريالات في المدينتين المقدستين، ما يمثل موسما كبيرا لأنشطتهما الاقتصادية، وهذا بلا شك يدعم اقتصاد المدينتين ويولد الوظائف والدخل لكثير من سكانهما. وشهد هذا العام تعافيا كاملا من أزمة كورونا وأعدادا قياسية في عدد المعتمرين والزوار. ومن المرجح أن يتجاوز عدد المعتمرين هذا العام 20 مليونا، يشكل القادمون من الخارج ما قد يصل إلى 40 في المائة.
وتستعد عديد من الدول الإسلامية لرمضان من خلال تخصيص موارد إضافية لتلبية زيادة الطلب على السلع الأساسية المدعومة المرتبطة برمضان، التي يستورد كثير منها، ما يولد ضغوطا على موازينها الخارجية. تصاحب الطفرة الاستهلاكية الرمضانية في بعض الدول والأماكن ارتفاعات الأسعار، خصوصا في السلع التمونية كاللحوم والملابس وأماكن الإيواء قرب الأماكن المقدسة، لكن في معظم الحالات تعود الأسعار إلى مستوياتها بعد انتهاء موسم رمضان والعيد. من جهة أخرى، تضطر الأسر إلى تخصيص ميزانيات إضافية للإنفاق في رمضان.
تحدث تأثيرات للشهر الكريم في إنتاج السلع والخدمات، لكن من المؤكد حدوث تأثيرات إيجابية قوية في الإنفاق وتوزيع الدخل. وتستعد الأعمال مبكرا لهذا الشهر بزيادة مخزون السلع لمواجهة ارتفاع الطلب، ما يعني زيادة إنتاج السلع والخدمات في الفترة السابقة لهذا الشهر الكريم، وقفزة في المبيعات الموسمية. ويدعم هذه المتغيرات الإنفاق المحلي وتزيد مستوياته خلال موسم رمضان. وعموما تحدث في رمضان بعض التغيرات الاقتصادية المتباينة التي يصعب تحديد تأثيرها الإجمالي، لكن من المرجح أن لها تأثيرا إيجابيا في المجتمعات المسلمة ليس بالشرط أن تكون اقتصادية، حيث تشعر الأغلبية برضا أكبر خلال هذا الشهر رغم التكاليف التي تواجهها الأسر والمجتمعات في شهر الخير.

المزيد من الرأي