كورونا يزيح قناع الشركات

بعد واحدة من أقوى وأطول الأسواق الصاعدة في التاريخ، هز كورونا الأسواق العالمية وقلل بشكل كبير من قدرة عديد من الشركات على توليد الإيرادات. لن نعرف الآثار الدائمة لكورونا على مجتمع الأعمال حاليا، لكن إلى الآن هناك عديد من الدروس المستفادة حول العولمة والابتكار وإدارة المخاطر وقيمة مصالح أصحاب المصلحة. وكما قال آندي جروف، الرئيس التنفيذي السابق لشركة إنتل
"الأزمات دمرت الشركات السيئة ونجت منها الشركات الجيدة وتحسنت فيها الشركات العظيمة".
الأزمات هي الاختبار الحقيقي للقيم والأخلاقيات وهي المحك الذي يظهر الشخصية الحقيقية للشركة. يدعي كثير من الشركات في رؤيتها وأهدافها وقيمها أنها تراعي جميع أصحاب المصلحة لكن هذه المزاعم تم اختبارها خلال هذه الأزمة، فنجد كثيرا من الشركات قامت بفصل موظفين أو تخفيض رواتبهم، إلغاء خدمة العملاء، التنصل من العقود الحالية والتأخر في دفع المستحقات بحجة الأزمة، بينما في الوقت ذاته تقوم هذه الشركات بعمليات شراء كبيرة لأسهمها مستغلة تراجع أسعار هذه الأسهم لتقوم بإعادة بيعها مستقبلا وجني الأرباح، كما تستمر في دفع مكافآت ضخمة لمديريها.
معاناة بعض الشركات في هذه الأزمة القصيرة تدل على عدم وجود استراتيجية صلبة وأهداف حقيقية، فكيف لشركات تعمل أعواما طويلة ولديها أرباح متراكمة أن تنكشف خلال بضعة أشهر؟ والمتضررون هم أصحاب المصلحة من الموظفين والعملاء والمتعاقدين.
التعامل مع هذه الأزمة يعيدنا للسؤال القديم الجديد، ما الهدف من الشركة؟ هل هو تحقيق الأرباح وتعظيم القيمة؟ لقد كانت هذه الإجابة هي الدارجة سابقا في السبعينيات عندما كان المديرون هم من يسيطر على توجيه الشركات والتحكم فيها، وذلك لأن تعظيم الأرباح يصب في مصلحة المديرين بربط مكافآتهم السنوية مع حجم الأرباح، كما أنه يحقق أهداف المساهمين في الشركة، وهذا ما يعرف بمنهج المساهمين.
الآن في عصر الحوكمة أصبحت قيادة الشركة والتحكم فيها تتم من قبل مجلس إدارة ذي تمثيل أوسع ومسؤولية أشمل أمام أصحاب المصالح وليس أمام المساهمين فقط، وبذلك فإن هدف الشركة أكبر من مجرد تحقيق رقم ربحي آخر العام، والمقصود بأصحاب المصالح: العملاء والموظفون والموردون والمجتمع والبيئة وكل من يؤثر ويتأثر بالشركة. يعرف هذا المنهج بمنهج أصحاب المصالح الذي يتبنى فكرة أن ثروات الشركات لا يبنيها المساهمون والإدارة فقط، لكن أيضا من خلال العلاقات مع العملاء والموردين والموظفين والمجتمع ككل والحفاظ على هذا التوازن، فالشركة لا يمكنها تحقيق أرباح طويلة الأجل دون مراعاة احتياجات أصحاب المصلحة وهذا لا يتعارض مع أهداف المساهمين، بل يعزز المساءلة والقيمة المستدامة ويساعد على تعزيز المنظور طويل المدى.
تؤكد الحوكمة أن الهدف من الشركة هو زيادة قيمتها على المدى الطويل بما لا يضر البيئة ويخدم المجتمع ويحفظ حقوق أصحاب المصالح، أو باختصار: تعظيم قيمة الشركة وضمان الاستدامة. لذلك نرى تحولا كبيرا يشهده العالم من منهج المساهمين إلى منهج أصحاب المصالح الذي يقوم عليه فكر حوكمة الشركات.
تباينت ردود أفعال الشركات في هذه الأزمة ففي الطرف الأول شركات سلبية استغلت هذه الأزمة لزيادة أرباحها على حساب أصحاب المصلحة، وعلى النقيض شركات إيجابية تميزت باستثمار هذه الأزمة لتعزيز علاقتها مع أصحاب المصلحة من خلال عملها لمصلحة المجتمع عموما، وليس فقط نيابة عن المساهمين مظهرين قيادة إنسانية وملتزمين بالهدف من الشركة. هذه الشركات الإيجابية أبدت ردة فعل أفضل لأنها استثمرت لأعوام طويلة في مهارات موظفيها والتحول الرقمي والبحث والتطوير وعلاقات العملاء والمستثمرين وغيرها لتكون أكثر قدرة على التعامل مع الأزمات، بينما الشركات السلبية تقوم بإعادة استثمار فوائضها في استثمارات جديدة من ضمنها أسهم الخزانة أو غيرها، وكأن هدف الشركة الأول والأخير تحقيق الأرباح ورضا المساهمين فقط. أحد الأمثلة على أصحاب المصلحة وكيفية تعامل الشركات معهم في ظل هذه الأزمة هم فئة الموظفين الذين هم رأس المال البشري للشركات، وبالطبع فإن الموظفين يقدمون قيمة أعلى من قيمة رأس المال المادي الذي يقدمه المساهمون، خاصة في الشركات التي تعتمد على أفكار وإبداع وجهد العنصر البشري. إن التعامل مع الموظفين في ظل أزمة كورونا أزاح القناع عن الوجه الحقيقي لبعض الشركات التي لطالما ادعت أن الاهتمام بالموظفين أولوية، بينما بينت الأزمة أنهم أول الضحايا، فبدأت خطط تخفيض التكاليف بتخفيض رواتبهم وتسريح بعضهم، هذا إضافة إلى عدم الاهتمام بتوفير البيئة الصحية والآمنة لهم للعمل ليتعدى الضرر لأسرهم. في المقابل، برهن بعض الشركات على التزاماتها أمام الموظفين من خلال توفير إجازات مرضية مدفوعة الأجر، رعاية أطفالهم، زيادة أجور موظفي الخطوط الأمامية وتحسين التغطية الطبية لهم.
كشفت الأزمة عن شركات تمثل المواطنة الصالحة من خلال عدم اكتفائهم بالالتزام بحقوق أصحاب المصلحة المباشرين فقط، بل تجاوزوا هذا الالتزام إلى المساهمة المجتمعية من خلال دعم المستشفيات والجمعيات الخيرية ومراكز الأبحاث، وتبديل خطوط الإنتاج لسد النقص في الأدوات الصحية اللازمة وتوفير الدعم اللوجستي لتسهيل شحن المنتجات الأساسية وتسخير إمكانات الشركة وأصولها لخدمة المجتمع والوطن حسب قدرة الشركة وطبيعة نشاطها وحاجة مجتمعها متبنين فكر أن "الشيء الصحيح" هو في الأغلب "الشيء المربح" على المدى الطويل.
ختاما، من الواضح أن كيفية استجابة الشركة لهذه الأزمة سيكون لها تأثير طويل الأجل في سمعتها، يبدو أن الشركات التي تبنت منهج أصحاب المصلحة تحت الضغط وبشكل دعائي وإعلامي، فإنها أول من فشل في اختبار كورونا، بينما الشركات التي آمنت بضرورة التغيير، وأيقنت أن أصحاب المصلحة جزء من استدامة الشركة، وأسهمت في التماسك الاجتماعي، تجاوزت هذا الاختبار القاسي لتثبت أنها تعني ما تقوله في رؤيتها وأهدافها واستراتيجيتها، وهذه الشركات هي حتما الفائزة والباقية والأجدر بالاحترام.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي