Author

التكنولوجيا وتطوير إنتاج النفط

|


النفط كنز العرب منذ القدم، ويذكر كتاب الخراج نقاشا حول بيعه وخراجه على الدولة الإسلامية في تلك القرون، بالتأكيد لم يكن أحد في تلك الأيام يعرف الأسرار الكبرى في ذلك الذهب الأسود، لكن التطور التكنولوجي والحتمي في الحضارة الإنسانية قاد الإنسان - بفضل الله – إلى اكتشاف منافع جديدة فيه وهي الطاقة، مع القدرة على تحويله إلى وقود لمحركات الاحتراق الداخلي والمحركات النفاثة، ومع هذه التطورات نشأ الطلب الذي نعيشه اليوم وأنتج ثروة نمت معها البلاد وانتعشت الأرض بفضل القيادة الحكيمة وحسن إدارة الثروة، وشهدت مناطق ودول مثل هذا التدفق من النفط لكنها عاشت صراعات قضت على حلم الشعوب في الرفاهية. مع ذلك، فإن الحديث لا يكاد ينقضي حول قضيتين أولاهما نضوب النفط، والأخرى تلاشي الطلب عليه كما حدث مع الفحم الحجري، لكن التطورات التكنولوجية التي قادتنا إلى الاستفادة من النفط أكثر مما استفاد منه أجدادنا في الخراج، هي التي أثبتت اليوم عدم صدق هاتين الفرضيتين، فمقولات نضوب النفط نفتها اكتشافات لا تنتهي خاصة في النفط الصخري الذي أثبت توافره في كل أنحاء الكرة الأرضية، وجهود استخراجه تتحسن، كما أن تطور التكنولوجيا جعل استخدامات النفط تتطور من مجرد وقود إلى توفير متطلبات صناعية أساسية مع تطور صناعة البتروكيماويات، وكما تطور المحرك البخاري إلى الاحتراق الداخلي يتطور العالم اليوم لصنع منتجات مختلفة من النفط، ومع تطور هذه الموضوعات معا وبشكل آني، فإن فرضية نهاية عصر النفط كما انتهى عصر الفحم الحجري لا مكان لها من العلم.
رؤية المملكة 2030 رؤية موضوعية قبل أن تكون خطة استراتيجية، فقد بنيت وفق معطيات حقيقية، فلم يتم تجاهل أن التحولات في صناعة استخراج وإنتاج النفط تتطور بسرعة مذهلة وهذا يعني أن متلازمة صدمات العرض والطلب في سوق النفط باقية معه لا تنتهي، ولهذا بذلت المملكة جهودا مضنية ولا تزال تبذلها من أجل حوكمة وإدارة السوق النفطية لكن هذا ليس دون تكلفة حتما، وبما أن تعداد السعوديين ينمو بأعلى من المعدل العالمي حتى لو شهد بعض التراجع أخيرا، لذا عملت "الرؤية" على تحسين كفاءة الاقتصاد وتنشيط بعض القطاعات الواعدة مثل السياحة وتحول المملكة إلى مركز تجاري عالمي، وقد أثبتت الأعوام التي مضت أن هذه الاختيارات صحيحة جدا، ولهذا فإن خطة تنويع الاقتصاد بعيدا عن النفط تعد خيارا للتنوع، وليس لأن النفط سينضب، بل لأن الاقتصاد لم يعد بوسعه تحمل الصدمات الملازمة لسوق الطاقة، ومن ناحية أخرى فإن المملكة اليوم تقف على هرم صناعة البتروكيماويات، ولقد سبقنا كثيرا من دول العالم عندما تم إنشاء مدينتي الجبيل وينبع، وتم تطوير شركة سابك، وحان الوقت لنكسب من هذه المزايا أكثر مما نفعل اليوم. فهذه الصناعات البتروكيماوية توجد طلبا على النفط بعيدا عن مسألة الطاقة، بل طلبا مطردا على المنتجات المرتبطة به جوهريا مثل صناعة البوليمرات، هنا تبدأ المعادلة تعكس نفسها، فإذا كان التطور التكنولوجي مهددا لصناعة الطاقة والطلب على النفط الناتج عنها، فإنه أيضا محرك للطلب من جوانب أخرى فيما لو استطاعت المملكة أن تحدث اختراقا في المدخلات الصناعية لكل المنتجات ومنها منتجات الطاقة المستجدة.
من أجل تحقيق هذا التحول الاقتصادي العميق استحدثت اللجنة العليا لشؤون المواد الهيدروكربونية برئاسة الأمير محمد بن سلمان ولي العهد برنامجا لاستدامة الطلب على البترول عبر تحفيز الطلب على البوليمرات في الأسواق الناشئة. وتقوم هذه الرؤية على التكامل بين المصافي النفطية وصناعة البتروكيماويات، ما يرفع العوائد إلى أعلى مستوى نتيجة التشغيل الأمثل لكل الأصول الموجودة في المملكة. وهذه الرؤية التي بدأتها "أرامكو" بشراء "سابك" تمثل برنامجا طموحا طويل الأمد لمدة تتجاوز عشرة أعوام وبالتركيز على الابتكار، لتعظيم إيرادات المملكة البترولية وإنشاء صناعات تحويلية، حيث يتم استغلال المواد المصنعة من البترول مثل البوليمرات أو البلاستيك في استخدامات جديدة مبتكرة ومستدامة، فالبوليمرات تستخدم اليوم بشكل واسع في الطباعة ثلاثية الأبعاد، ولكونها تتميز بخصائص تقترب من الخرسانة فقد تعد بديلا عن الأسمنت فيما لو تم تطوير خرسانة ثلاثية الأبعاد وقابلة للثني.
لكن تبقى أهم المشكلات التي يعمل برنامج استدامة البترول على حلها وهي الوصول بالتكلفة إلى مستوى قدرة المستهلك في الأسواق الناشئة التي تقود النمو العالمي اليوم، كالهند والصين ودول إفريقيا، فالبرنامج يعمل لتحقيق هذه الابتكارات وبسعر أقل، ولو حدث ذلك فإن الطلب على هذه البوليمرات في العالم سيقفز بشكل لم يسبق له مثيل وسيشكل دعما كبيرا للاقتصاد السعودي وميزة تنافسية يصعب تحديها، لهذا فإن الحديث عن انخفاض الطلب على النفط بسبب تنامي التكنولوجيا في العالم يتجاهل أننا نعمل هنا في المملكة على تطوير تكنولوجيا تجعل الطلب على البترول مستداما وتجعل اقتصاد المملكة ضمن أكبر عشرة اقتصادات في العالم، فالتكنولوجيا التي يخشاها البعض، هي حصاننا الأسود في المستقبل.

إنشرها