عندما يتشظى النص

نلقي مزيدا من الضوء على النص ووظيفته وتأثيره وتحليله. وحسب علمي، الدراسات التي تتناول النص في العربية في العصر الحديث شحيحة، وإن وجدت فإن قراءتها عسيرة لأنها تتكئ كثيرا على الترجمة الحرفية وعلى الخصوص من اللغتين العربية والفرنسية.
وقد يستغرب القارئ إن قلت إن العرب إبان نهضتهم الحضارية في القرون الوسطى – التي كان الظلام والجهل فيها يخيم على الغرب – كان لهم باع في دراسة النص وتحليله.
وقد يستغرب القارئ أكثر إن قلت إنني أستقي من التراث العربي والإسلامي عند تقديم مفاهيم وفرضيات تخص وظيفة النص في حياتنا وتأثيره في تشكيلنا وتكويننا الاجتماعي والثقافي.
وإن عزفت عن إيراد المصادر أو الأسماء، فذلك مرده للتشظية التي صارت صفة ملازمة للمجتمعات العربية في العصر الحديث. أستخدم مفهوم "التشظية" هنا للدلالة على الفرقة والشقاق والتناحر في كثير من أمصار العرب والمسلمين.
هل تشظية أو تشظي النص حالة سلبية كما هو شأن تشظية أو تشظي المجتمعات العربية والإسلامية في الوقت الراهن؟
كلا. تشظي النص حالة إيجابية وترافق كل النصوص مهما كان منشأها. ليس هناك نص خال من التشظية. النص يعيش ويبقى معنا لأن حياته تستند في مجملها إلى التشظية التي ترافقه.
وما هي عملية تشظية النص، يا ترى، وما الفرق بينها وبين عملية تشظية المجتمع؟
التشظية في النص والتشظية في المجتمع، معجميا، لهما مدلولات متقاربة. عندما نقول "تشظى أو شظي القوم أو تشظى المجتمع" معناه أنهم تفرقوا.
ومفردة "تفرقوا" تتحمل تأويلات كثيرة. كمجتمعات، نحن نفترق عن بعضنا بعضا لأسباب عديدة، قد تكون جغرافية أو فكرية أو غيرها؛ بيد أن "الفرقة" في الغالب تنتهي في صراع يأخذ أشكالا مختلفة.
ونحن نرى "الفرقة" في صفوفنا حالة غير سليمة، ونخشاها ونسعى صوب "الوحدة،" التي كانت ولا تزال أملا من العسر استدامته حتى على مستوى مجتمعات صغيرة.
بقدر تعلق الأمر بالنص، فإن التشظية سر وجوده، ودونها لا حياة ولا تأثير له. النص عكس المجتمعات، ينبذ الوحدة ولا يسعى إليها. النص يرى التشظية حالة سليمة ويتعايش مع الصراع الذي تحدثه وهو مطمئن على وجوده ومستقبله.
لنلقي نظرة خاطفة على أصغر وحدة يتألف منها النص، وهي المفردة، في المعجم. كل مفردة فيه تحتمل التأويل ولها أكثر من معنى. وحال أن نضع أي مفردة ضمن السياق، سنندهش للتشظية التي تحدثها.
ويسبغ التشظي اللغوي مزيدا من المعرفة للنص وفرصة للمتلقي للتبحر في ألفاظه ومعانيه الظاهرة والمضمرة التي يحتاج تفكيكها إلى قدر عال من التفكير والتمحيص والتأويل.
والتراث العربي يزخر بأقوال على شاكلة إن كل شيء قابل للتأويل وإنه ليس هناك نص لا يمكن تأويله.
وإن عدنا إلى تعريفنا الأولي المبسط للنص، فهذا معناه أن التشظي الذي نحن في صدده حالة إنسانية طبيعية. النص يتشظى، والنص يقبل التشظية. نحن أيضا نتشظى في قراءتنا للنص ولكن نخشى أو نقاوم التشظية.
مشكلتنا تكمن في أن التشظي يؤدي إلى خلاف وصراع وفرقة فينا كمجتمعات. النص يرى التشظية جزءا من كينونته.
النص يقبل برحابة الصدر أن نقرأ مثالا حول عملة ذهبية عليها صورة أحد قياصرة روما ونقارنها ونقاربها مع الورقة الخضراء التي عليها صورة جورج واشنطن أو توماس جيفرسن.
وكذلك أن نقارن ونقارب بين الأتان والجحش من جهة وبين وسائط النقل الحديثة من جهة أخرى للوصول إلى تأويل مناسب لنص تاريخي مثلا.
وفي السياق ذاته، بإمكاننا إجراء مقاربة ومقارنة بين الخيل ورباطها وأهميتها في ساحة الوغى قديما وبين الأسلحة الحديثة.
وعلى ذات الشاكلة، بإمكاننا إجراء مقاربة ومقارنة بين الذهب والفضة في فترة قديمة ودور العملة في عصرنا.
المشكلة هي في القراءة وليس النص. القراءة تخصنا نحن المتلقين؛ وكل قراءة تمنح النص حياة جديدة. النص يقبل تفكيرنا البشري الذي من سماته الأساسية التقلب السريع.
وكل قراءة لأي نص ما هي إلا جزء من تشظية النص ذاته.
ما لا يحبذه النص، لا، بل ينبذه هي قراءة جافة صارمة تتربص بكلماته وجمله وفقراته لاقتناص ما يوائم ما نحن عليه من ميل ووجهة نظر حتى وإن كانت قراءة أحادية إقصائية تسلب الحق الذي يمنحه النص للأخر كي يقرأ بطريقة مختلفة.
النص كما قلنا لا حياة له دون تشظية، التي هي منه وإليه. والنص يدعونا إلى أن تكون قراءتنا مختلفة ومتشظية؛ بمعنى آخر إن النص من خلال تشظيته يحاول تحرير عقلنا من تبعات وعي وعقل لا يقبل التغيير ويقاوم المختلف.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي