العلاقات الرقابية الجديدة بعد الأمر الملكي

كنت قد أشرت في مقال سابق إلى المفهوم الجديد الذي قدمه الأمر الملكي رقم (أ/277) حيث قضى بضم هيئة الرقابة والتحقيق والمباحث الإدارية إلى الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وتعديل اسمها ليكون هيئة الرقابة ومكافحة الفساد، وأشرت إلى مفهوم المحاسبة الجنائية كمدخل لفهم الأبعاد النظرية لهذا التعديل المهم وأنه ينسجم تماما مع التوجهات الحديثة في مكافحة الفساد، خاصة المالي منه، والحديث في هذا الجانب متشعب جدا، فالمحاسبة الجنائية أتت لمواجهة المحاسبة الإبداعية Creative accounting وهي تلك المهارات التي يستخدمها المحاسب أو المالي المحترف من أجل الإخفاء والتمويه على عملية الفساد المالي من خلال دمجها ببراعة في النظام المحاسبي للجهة، ومن خلال مستندات وأدوات نظامية، فالمسألة ليست مجرد تزوير أوراق رسمية أو اختلاسات مباشرة أو سرقات في وضح النهار، بل هي أساليب خفية جدا، ويقوم بها مهنيون محترفون، لهذا يصعب في العادة إيجاد الدليل القاطع بحدوث الفساد، ومن هنا نجد أن الترتيبات التنظيمية التي أشار إليها الأمر الملكي إلى عبارات مثل "وجود شبهات قوية" وأن ثروة الموظف العام ومن في حكمه التي تنشأ بعد توليه الوظيفة أو زيادة لا تتناسب مع دخله أو موارده فيكون عبء الإثبات عليه، وفي حال عجزه عن إثبات مصدرها المشروع، وكل هذه الترتيبات تشير بوضوح إلى أن مكافحة الفساد في المملكة قد أخذت بعدا آخر، فهي تركز على تلك القضايا التي تتم فيها جريمة الفساد المالي باستخدام مهارات تمكن الموظف من تغطية ذلك، هنا نقول وبكل ثقة: لم يعد للفساد ملاذات آمنة في السعودية.
من المهم الآن معرفة كيف سيتم تحديد المشتبه فيهم في قضايا الفساد الاحترافي -إذا جاز التعبير-، تشير الدراسات بشكل عام إلى أن أفضل أسلوب لاكتشاف الفساد هو المبلغون عنه، هذا يعني أن المجتمع الرافض للفساد ركن أساس في تحقيق وتطبيق المفاهيم التي أشرت إليها، فالفساد محكم التغطية من الصعب اكتشافه بالإجراءات المعتادة للرقابة، ومن المهم الإشارة هنا إلى أن المحاسبة الإبداعية لن تتحقق ما لم يكن هناك أكثر من شخص، وهناك تآمر بينهم على تنفيذ الاختلاسات أو إيجاد تبرير لها، لهذا فإن المجتمع الرافض للفساد هو أول وأهم الخطوط الدفاعية ضده، ولهذا فإن على هيئة الرقابة ألا تغفل هذا الدور المهم للمجتمع، ويجب ألا نقلق من البلاغات الكيدية، فإن لدى الهيئة ما يضمن مصداقية البلاغ وجدية المبلغين.
يبقى دور الديوان العام للمحاسبة، وهل لديه القدرة على اكتشاف الفساد الناتج عن أساليب المحاسبة الإبداعية؟ في اعتقادي أنه يجب على ديوان المحاسبة أن يستمر في ممارسه دوره الأساس وهو تقديم ضمانات بشأن أداء الأجهزة الحكومية سواء المالي أو ما يتعلق بإنجاز الأهداف، فالأمر الملكي رقم (أ/473)، بتعديل مسمى الديوان من المراقبة إلى "الديوان العام للمحاسبة"، وهنا يظهر لي أن هذا يجعل الفصل واضحا بين هيئة الرقابة ومكافحة الفساد وبين الديوان، فالأول مسؤول عن تطبيق المحاسبة الجنائية، بينما الثاني مسؤول عن المراجعة التقليدية التي تقدم تأكيدات الأرقام التي ترد في الحسابات الحكومية خالية من الأخطاء والغش المتعمد، لكن يجب أن يتم ذلك من خلال الأساليب والمعايير المتعارف عليها، وليس من خلال مبادرات خاصة، كما على الديوان التأكد من كفاءة وفاعلية الأداء وأيضا باستخدام الأساليب المتعارف عليها، لكن إذا صادف العمل والمعتاد والمتعارف عليه اكتشاف قضايا تحتوى على فساد، فهنا لا بد أن يقوم الديوان العام للمحاسبة بالتواصل مع هيئة الرقابة ومكافحة الفساد كي يتم التعامل معها من خلال أساليب البحث الخاصة بالمحاسبة الجنائية، قد يكون من المناسب أن يكون هناك تنسيق بين الطرفين على مستوى عال، حيث يكون هناك قسم أو إدارة مختصة بالمحاسبة الجنائية في الديون العام للمحاسبة عليه أن يقدر مدى مناسبة نقل القضية إلى هيئة الرقابة ومكافحة الفساد مباشرة، وعليه أن يجهز جميع القضية قبل استلامها ويكون على تواصل تام بالقضية. فالتكامل بين الهيئة والديوان يعد أمرا مفصليا في حربنا على الفساد، فالمسألة لم تعد مجرد ملاحظات يتم رفعها من قبل الديوان إلى الجهة، أو مجرد إجراءات روتينية لاسترداد المبالغ، بل إن إثبات جريمة الفساد واستخدام القوة النظامية الجديدة التي منحها الأمر الملكي للهيئة بفصل الموظف المتورط، هي التحول المنشود الذي قضى به الأمر الملكي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي