لماذا نخفق في معرفة ما يضمره لنا الغد؟
قراءة المستقبل مهمة شاقة لكنها تقع في صلب حياتنا كأشخاص ومؤسسات وشركات ودول، في السابق من الزمان كان هناك أناس يدعون أن لهم ملكة معرفة ما يخبئه الزمن. وكان لهؤلاء دور بارز في الحياة الاجتماعية والثقافية والدينية في حينه، بيد أن محاولة قراءة المستقبل تحولت إلى مهنة وممارسة تقوم بها شركات توظف أصحاب الاختصاص والمعرفة وتستثمر المال الوفير؛ وأول شركات أو مراكز أبحاث من هذا النوع ظهرت للوجود في الولايات المتحدة في الثلاثينيات من القرن المنصرم.
ولدينا مصطلحات وتسميات عديدة لتوصيف عملية استقراء ما قد يقع في عالم اليوم وعلى مختلف المستويات. وهنا لا أقصد قراءة الفأل أو التنجيم أو الأبراج.
في عالم تتقاذفه موجات فقدان الثقة والشكوك في أغلب شؤون الحياة حاضرا ومستقبلا، صار الاتكاء على التوقعات أو استبيانات الرأي أو الاستطلاعات أو الاستفتاءات جزءا من حياتنا العصرية.
كان هناك وقت تتميز فيه المؤسسات والمراكز التي تدير هذه الشؤون بالمصداقية وينتظرها الناس بشوق ولهفة ليس لتحدي المسار السياسي للانتخابات بل لتحدي مثلا الوجهة التي سيوظفون فيها مالهم واستثماراتهم.
والتوقعات صارت من الأهمية بمكان حيث تهتز لها شركات كبيرة ودول عندما تصبح هدفا للتنبؤ بما قد يقع لها أو ما هي مقبلة عليه.
وما يزيد وقع هذه التوقعات واستطلاعات الرأي كانت أم للمسارات المختلفة الأخرى التي تؤثر في حياتنا، هو المصدر الذي يقف خلفها. اليوم أغلب التنبؤات والتوقعات والاستطلاعات تقوم بها مؤسسات بحثية رصينة مستخدمة آخر ما توصل إليه البشر في الحقول المعرفية والتكنولوجية المختلفة.
في الثلاثينيات من القرن الماضي كان القائمون على شؤون الاستطلاع يطرقون أبواب الناس لاستبيان آرائهم.
وهرع مستطلعو الرأي إلى الهاتف عند اختراعه والبريد ومن ثم وجدوا ضالتهم في الثورة الرقمية التي سهلت إجراء الاستبيانات والتوقعات والتنبؤات حيث دخلت اليوم في أغلب مضامير الحياة وصرنا لا نكتفي بالتوقعات على مستوى الأعوام أو الفصول أو حتى الأشهر.
هناك وكالات تنشر توقعات لحركة الأسعار مثلا على مستوى الأسابيع والأيام، لا بل هناك من لا يكتفي بالتوقع ضمن اليوم الواحد بل يمنحك توقعاته وتنبؤاته مع طلوع الشمس وانتصافها ومغيبها، كما هو شأن التوقعات حول قيمة الأسهم والعملات والبضائع الاستراتيجية.
وصارت الاستطلاعات والتوقعات تأتينا من كل حدب وصوب، بسرعة وكثرة إلى درجة أخذ كثير من العلماء والباحثين يضعها في خانة العلوم الناقصة أو غير الناضجة.
وكثيرا ما تخفق في توقعاتها وكثيرا ما تصح، بيد أن الناس بصورة عامة تسلط الضوء على السلبيات والإخفاقات لأن المنطق والعقل والحس السليم الذي يحكمنا كبشر يفرض علينا التسليم جدلا أن الصدق هو الذي يرافقنا ولا سيما عند ادعائنا أننا نلتزم بمعايير البحث العلمي.
ونتائج الاستطلاعات وتوقعات مراكز الأبحاث لها تأثير بالغ ولعدة أسباب. في الانتخابات، فإنها تؤثر في الحملات الانتخابية للأحزاب ومرشحيها وتمويلهم.
ونتائج استطلاعات الرأي وتوقعات مراكز الأبحاث لها تأثير بالغ في الأسعار والأسواق واكتتاب الأسهم وقيمتها والقيمة السوقية للشركات وأسعار المواد الأولية والعملات وتوقعات مسارها.
وقد يذهب تأثيرها لتحديد مدى المشاركة الجماهيرية في الانتخابات أو ما يحمله الناس من مواقف صوب مختلف القضايا.
وعندما يدعي القائمون على الاستطلاع أنهم يطبقون القواعد العلمية الرصينة وأحدث التقنيات، من حق الناس أن تسأل لماذا تأتي نتائجهم في كثير من الأحيان مخالفة لتوقعاتهم؟
ما يخفيه عنا المستطلعون والمتنبئون والذين يقولون لنا إن في إمكانهم معرفة ما يخبئه المستقبل لنا هو عدم تطرقهم أو تهميشهم لحقيقة جلية وهي تحيز المشاركين في الاستبيانات والاستطلاعات الجماهيرية لمسألة على حساب مسألة أخرى وإخفاؤهم رغباتهم ونواياهم الحقيقة.
وننسى أن المستجيبين من كانوا لن يردوا بصراحة وموضوعية على أي استبيان يرون فيه أن وضعهم الاجتماعي أو السياسي أو الثقافي سيصبح هو المستهدف.
وأظهرت دراسات أكاديمية أن المستجيبين في الغرب مثلا يقدمون آراء سلبية بصورة عامة حول أي نقطة في أي استبيان يخص الأقليات أو المراءة (إن كانوا ذكورا) أو عند التعبير عن وجهة نظرهم حول المهاجرين أو قضايا حساسة مثل إلصاق الإرهاب بفئة دينية محددة دون أخرى.
وأظهرت كذلك أن الناس لها مواقف مختلفة أو مزدوجة وتظهر شيئا في العلن وشيئا آخر في الخفاء. إن كان الاستبيان مستترا له موقف، وإن كان بائنا فيظهر موقفا آخر.
هل ستصبح الاستطلاعات والتوقعات شيئا من الماضي؟ لم يحن الوقت بعد، إلا أن مصداقيتها بدأت تخفت، والله الأعلم.