Author

موسوعات ومعاجم «فيسبوكية»

|
أستاذ جامعي ـ السويد


هذا الموضوع كان في ذهني منذ أمد بعيد، وكل مرة كنت أحاول التطرق إليه كنت أتجنبه، والسبب أنني كنت أفتقر إلى مقدمة ملائمة كمدخل له.
وفي يوم الثلاثاء الفائت كنت أتصفح بحثا باللغة الإنجليزية حول الترجمة إلى لسان الضاد في العهد العباسي. الموضوع شيق ويستحق أكثر من قراءة، لكن ما شدني إليه هو التركيز على براعة مترجمي ذلك الزمان على توحيد الأسماء والمصطلحات التي كان يجري نقلها إلى العربية.
تطرق البحث ببعض الإسهاب إلى مسألة في غاية الأهمية، بيد أنها مع الأسف الشديد، لم يمنحها المترجمون وأساتذة الجامعات والمثقفون العرب في العصر الحديث ما تستحقه من اهتمام.
كان العرب القدامى يعزفون عن نقل الأسماء والمصطلحات كما ترد في لغاتها الأصلية. بمعنى آخر، لم ينصب اهتمام المترجم على نقل المحتوى إلى اللغة العربية فحسب، بل وصل إلى تعريب الأسماء والمصطلحات بالعزوف عن نقلها كما تلفظ بلغاتها الأصلية.
وهذا معناه أن العرب لم يبدعوا في ترجمة النص فحسب بل أضافوا رونقا عربيا للأسماء والمصطلحات ومنها أسماء العلم إضافة إلى كل ما له اسم معين لا يطلق على غيره مثل أسماء البلدان والمدن والنجوم والمواد الكيميائية والعقاقير والمصطلحات الطبية والفلكية والمعادلات الحسابية والهندسية والمكتشفات وغيرها من الشائع في زمانهم.
والقارئ لأي ترجمة إلى العربية في ذلك الحين ستأخذه الدهشة لأنه يرى نفسه أمام نص كأنه مكتوب بالعربية أساسا وليس مترجما.
وهذه الخاصية بالذات جعلت من الترجمات خصوصا الفلسفة والعلوم الإغريقية مادة يسيرة القراءة لا تتطلب جهدا كبيرا للمتضلع بالعربية حتى وإن كانت تنقصه الخلفية الفكرية والفلسفية والعلمية التي تجعل من هضم مواد مثل هذه شرطا أساسا.
وهكذا استقطبت الكتب المترجمة القراء بمختلف مشاربهم وصرنا أمام نهضة علمية وفكرية قل نظيرها في التاريخ الإنساني. ومن ثمار هذه النهضة التي كانت الترجمة إلى العربية من أهم محركاتها شيوع الفرق الفكرية والفقهية ونمو حركات وسطية تقبل الرأي المختلف وتتعايش معه.
أكاد أجزم أن العرب والمسلمين في الفترة الذهبية من العصر العباسي كانوا أكثر انفتاحا وقبولا للحوار والرأي الآخر مما هم عليه اليوم. وهذا الواقع يعزوه المهتمون بالشأن العربي والإسلامي إلى انتشار القراءة لأمهات المؤلفات الفكرية والفلسفية المتداولة في حينه في العالم التي جرى ترجمتها وتبويبها ومن ثم تحويلها إلى موسوعات معرفية كأنها كتبت بالعربية أصلا.
كانت هناك فرق لها آراؤها في شتى مناحي الحياة من دينية واجتماعية وسلوكية وفلسفية ومعرفية وفقهية. ورغم التباين الكبير بين وجهات النظر التي تتبناها تمتعت بهامش من الحرية أدى إلى ازدهارها ونموها وانتشارها لقرون عديدة، لكنها في حكم اليوم لا أنه أظن يمكن قبولها.
وما يميز هذه النهضة تناغمها وتماسكها وتطابقها من حيث المصطلح والمفردة والعبارة. أشرح أكثر وأقول إننا من النادر أن نلاحظ أن المصطلح الإغريقي مثلا يتم تعريبه بطرق مختلفة ومتباينة إلى درجة أن انتقلت من ترجمة إلى أخرى أو من نص إلى آخر كأنك انتقلت من واد إلى واد آخر كما يحدث أغلب الأحيان في عصرنا هذا.
توحيد المصطلحات كان قمة البراعة التي وصل إليها العرب في حينه، وهذا جرى في غياب ما نملكه اليوم من ثورة تكنولوجية ورقمية تجعل التواصل رغم بعد المسافات أمرا هينا.
اختلاف المصطلح الذي يشير إلى الفكرة ذاتها بين مترجم وآخر، وبين بلد وآخر، وبين مدرسة وأخرى، وبين جامعة وأخرى، من الخطورة بمكان لأنه يشتت الآراء والمواقف ويجعل من النمو والتواصل الفكري أمرا عسيرا.
شخصيا، أقف مشدوها أمام هذا الإنجاز في عصر لم تكن فيه حتى الطباعة بشكلها البدائي معروفة. وشخصيا، ينتابني الحزن والإحباط عندما أرى تشتت المصطلح ولا سيما في العلوم الاجتماعية في العربية في عصرنا هذا.
وقد يسأل القارئ كيف تمكن العرب من توحيد المصطلح في شتى المعارف والعلوم في زمن كان فيه المؤلفون والكتاب والنساخون يستندون إلى قلم الريشة والمداد في الكتابة وأن استنساخ نسخة واحدة من كتاب واحد كانت تستغرق أياما؟
الجواب يكمن في تمكن العرب من فرعين من فروع المعرفة الإنسانية التي بدونها لا يمكن لأي نهضة أن تأخذ مسارها وتتألق وتتقدم.
الفرع الأول كان ولع العرب بتأليف المعاجم. وأجزم أننا حتى هذا اليوم ما زلنا نتكئ على المعاجم العربية القديمة لتفسير ما يصعب علينا هضمه من مفردات وعبارات ومصطلحات. العرب في العصر الحديث أخفقوا في الإبداع في هذا المضمار.
والفرع الآخر يتمثل في تأليف كتب تقترب من الموسوعات أو دوائر المعارف الحديثة في الغرب. الموسوعات تعد من المصادر الأولية أو الأساسية في أغلب فروع المعرفة، وصار لكل شق من العلوم اليوم دائرة معارف خاصة به في الإنجليزية. أما في العربية، فباستثناء التراثيات التي كانت متوافرة في القديم، تفتقر المكتبة العربية إلى موسعات معرفية لتقديم أغلب العلوم الأساسية في عصرنا هذا.
وفي غياب المعاجم والموسوعات التي هي بمنزلة المرشد والدليل في الترجمة وتوحيد المصطلح والتعريف بأسلوب علمي رصين بشتى المعارف الإنسانية، لن يكون بمقدورنا مغادرة ما تقدمه لنا الموسوعات الـ"فيسبوكية" التي لا تسمن ولا تغني من جوع.

إنشرها