ثقافة وفنون

الفلسفة .. ملح الحياة اليومية

الفلسفة .. ملح الحياة اليومية

الفلسفة .. ملح الحياة اليومية

الفلسفة .. ملح الحياة اليومية

يسود اعتقاد لدى كثيرين أن الفلسفة مجرد رفاهية فكرية، بعد الانحصار التدريجي لأدوارها في الحياة، بيد أن هذا الزعم مغالطة كبيرة، لما تعرفه وظائف الفلسفة من تجدد يساير تطورات العصر. فالفلاسفة -في رأي أبيقور- هم أطباء الروح، وعن ذلك يقول "كما لا يكون للطب أي نفع عندما لا يتخلص من العلة الجسدية، ستكون الفلسفة غير ذات نفع إلّم تتخلص من معاناة العقل". بهذا المعنى، يمكن للفلسفة أن تساعد الإنسان على تلمس طريق رائع للحياة، من خلال تقديم حلول فكرية تساعده على فهم تعقيداتها، واجتراح منافذ تسهل علينا الخروج من دوامة أنفاقها المظلمة.
يعد كتاب "عزاءات الفلسفة" للكاتب آلان دو بوتون، ضمن المصنفات التي تسعى إلى الكشف عن قدرات الفلسفة، في تفسير أسباب اليأس والإحباط لدى الإنسان، وإنقاذه من نماذج السعادة الخاطئة، بذلك يضع الفلسفة في صلب الحياة اليومية انطلاقا من ستة محاور "الرأي، المال، الإحباط، العجز، الحب، والمصاعب"، مستخدما الإرث الفلسفي لستة فلاسفة عاشوا في عصور مختلفة، بهدف مقاربة هموم الإنسانية المعاصرة.
يكتشف القارئ أسلوبا قصصيا جميلا، اعتمده المؤلف لاستعراض تجارب حياتية لفلاسفة من أماكن متباينة، وحقب زمنية مختلفة؛ "سقراط، أبيقور، سينكا، مونتين، نيتشه، وشوبنهاور"، بغرض استنباط خلاصات فلسفية، تعين القارئ على مواجهة مشكلات الحياة على نحو يمنح الحياة معنى جديدا. بصيغة أوضح، يسعى دو بوتون في ثنايا كتابه إلى فك الطلاسم المحيطة بهذا العلم الإنساني؛ التي توشك على تحويله إلى حفريات، قصد نقله إلى علم يطرح حلولا عملية لقضايا ومشكلات وأسئلة تلامس الأوضاع الراهنة.
درءا لكل خلاف من شأنه أن يؤثر في فكرة الكتاب ومضمونه، تلافى الكاتب تقديم أي تعريف للفلسفة، وكأنه يأخذ بنصيحة جيم هانكنسون، صاحب "المرشد إلى الفلسفة"، الذي يرى أن "الفلسفة شيء يجب أن تحاول دائما تجنب شرحه"؛ لما في ذلك من اختلاف بين المدارس والنظريات، علاوة على أن "الفلسفة ليست موضوعا، بل نشاطا، وتبعا لذلك فإن الإنسان لا يدرسها، بقدر ما عليه أن يمارسها".
حرص دو بوتون على انتقاء فلاسفته بعناية كبيرة، فكل الذين نلتقيهم على مدار صفحات الكتاب لهم نظرة متفردة إلى مسرات وآلام الحياة، بدءا من سقراط الذي يحضر كمثال على كسر جدار الخوف والعجز ومخالفة المألوف والجرأة على قول الفكرة السليمة، مهما كان ثمن تلك الفكرة، وهذا ما عبر عنه بقوله "طالما أنني أتنفس وأملك القوة، فلن أتوقف عن ممارسة الفلسفة، وإسداء النصح لكم، وتوضيح الحقيقة لكل من أصادفه، وبذلك أيها السادة سواء برأتموني أم لا، أنتم مدركون أنني لن أغير سلوكي، حتى لو مت مائة مرة".
ويحضر أبيقور في "العزاء بشأن الافتقار إلى المال" الذي تحول إلى هوس تلاحقه الإنسانية في الليل والنهار، لتأكيد أن السعادة في الحياة مرتبطة باللذة، وهذه الأخيرة توفرها أشياء أغلبها لا يحتاج إلى المال؛ فالصداقة والحرية والتفكير، وما إلى ذلك من هذه الأمور التي تحقق للمرء سعادته لا تحتاج إلى المال، مؤكدا أن "السعادة معتمدة على بعض الأمور السيكولوجية المعقدة، لكنها مستقلة نسبيا عن الأمور المادية".
تمثل الوفاة المأساوية للفيلسوف الروماني سينيكا على يد الإمبراطور نيرون تلميذه الذي انقلب على أفكاره، وقرر قتله، عزاء لنا في مواجهة الإحباطات والمصاعب التي قد نصادفها في الحياة، خصوصا حين نعلم أن أطروحة الرجل الذي ردد وهو يواجه الموت "أدين بحياتي للفلسفة"، تتأسس على أن التفاؤل المبالغ فيه هو ما يدفعنا إلى الغضب والألم، لذا يدعونا إلى أن "نبقي في الأذهان احتمالية وقوع كارثة في أي لحظة"، واصفا حسن الظن والتفاؤل بأنه "براءة خطيرة".
ما أكثر اللحظات التي نجد فيها أنفسنا عاجزين أمام الحياة، يحضر مونتين بقوة في العجز الثقافي، ليؤكد أن تلك اللحظات تستدعي مصالحة مع الاختلاف، أي اختلاف، مهما بدا غريبا عنا، أن نتفهم أن ما يسمى "طبيعة" في ثقافتنا، هو مجرد حكم نسبي، لا ينبغي له أن يتحول مطلقا إلى قاعدة. يستعمل هذا الفيلسوف المعيار ذاته لمساءلة ما نقرأه من أفكار لمفكرين وفلاسفة سابقين، متسائلا عن السبب وراء الانبهار بها حد التقديس، هل فقط لنسبتها إلى هذا الاسم أو ذاك؟
لا يستقيم الحديث عن العزاء في تاريخ الفلسفة دون ذكر فيلسوف "التشاؤم الأكبر" شوبنهاور، الذي قال "كل تاريخ حياة هو تاريخ من المعاناة"، وأضاف أنه "ليس للحياة قيمة أصلية جوهرية، لكنها تستمر بفعل الرغبة والوهم"، ودفع به الأمر حد تقديم الطبعة الثانية لكتابه "العالم إرادة وتمثلا" بقوله "لا إلى معاصري أو مواطني، بل إلى البشرية أكرس عملي الذي اكتمل الآن، واثقا بأنه لم يكن غير ذي قيمة للبشرية، حتى لو كان سيُعترَف بهذه القيمة ببطء، كما هو المصير الحتمي للخير بأي صيغة كان"، مع التنبيه إلى أن فلسفة الرجل أسيء فهمها، فهو لا يدفعنا إلى التشاؤم بقدر ما يحذرنا من التوقعات التي تفضي إلى الآلام.
كان نيتشه "أول إنسان محترم" بتعبيره، يدرك أن الأجيال القادمة سترحب بكل المصاعب، مؤكدا أن ما نسعى إليه يفرض علينا لزاما أن نتألم، وهذا ما أكده بقوله "في الحد الفاصل بين الإخفاق الأولي والنجاح اللاحق، في الهوة بين المكانة التي نتمنى تحقيقها يوما ما ومكانتنا حاليا، لا بد من الألم والقلق والحسد والذل"، باختصار، بحسب نيتشه دائما "لا بد من أن نتعلم معاناة كل ما نعجز عن تجنبه".
استطاع دو بوتون بهذا الكتاب أن يعيد الفلسفة إلى واجهة النقاش، بالبحث فيما تراه حلولا عملية يمكنها أن تفيد في الحياة المعاصرة، استقتها من تجارب عاشها بعض من أبنائها في حقب ماضية، وقد عزز عودة الفلسفة تلك بكتاب ممتع اختار له عنوان "قلق السعي إلى المكانة الاجتماعية"، اختبر في جزئه الثاني خصوصا بعضا من هذه العزاءات، بعدما استعرض في الجزء الأول الأسباب الكامنة وراء هذا القلق.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون