ثقافة وفنون

سليمان بشير ديان: الفلسفة ليست اختراعا غربيا

سليمان بشير ديان: الفلسفة ليست اختراعا غربيا

صدرت قبل أسابيع، في الساحة الثقافية الفرنسية، محاورة مهمة بين الفيلسوف الفرنسي ريمي براج والفيلسوف السنغالي سليمان بشير ديان، التي جاءت في شكل كتاب، يمتد على نحو 200 صفحة، حمل عنوان "الجدل: حوار حول الإسلام" La controverse: dialogue sur l’islam.
سليمان بشير ديان اسم إفريقي، مسلم" له نصيب من الحظوة والمقبولية في الأوساط الفرنسية، رغم انتقاده الشديد والمستمر لتاريخ فرنسا الاستعماري، ودعوته الدولة الفرنسية إلى الاعتراف به، متى رغبت في تحقيق مصالحة فصيل داخل المجتمع، يتزايد يوما بعد آخر؛ ويقصد أبناء المهاجرين القادمين من المستعمرات. فالرجل حاضر باستمرار في الساحة الإعلامية الفرنسية "فلسفة، المجلة الأدبية"، كما صنفته مجلة "لونوفيل أوبسرفاتور" في أحد الأعوام، من بين أهم 25 مفكرا عالميا، وضعته مجلة "جون أفريك" ضمن 100 شخصية، التي صنعت إفريقيا.
التحق بفرنسا مبكرا، قصد إتمام دراسته العليا في المدرسة العليا للأساتذة، حيث عاش تجربة الالتزام السياسي مع اليسار الماوي، ثم اقترب تدريجيا من الماركسية العلمية، بعد تأثره وإعجابه الشديد بأستاذه لوي ألتوسير، انتقل ضمن برنامج لتبادل البعثات إلى الولايات المتحدة للدراسة في هارفارد، وعاد بعدها إلى فرنسا قصد إنهاء دكتوراه حول موضوع "الفلسفة المنطقية لجورج بول".
أواسط الثمانينيات رجع إلى مسقط رأسه، حيث أسندت إليه مهمة تدريس الفلسفة والمنطق في جامعة داكار، واشتغل بعدها، لمدة ستة أعوام، مستشارا للرئيس السنغالي الأسبق عبدو ضيوف، في شؤون التعليم والثقافة، بدءا من عام 1993. شهدت الفترة ذاتها صعودا لافتا لقوى التشدد الديني، على رأسها حركات الإسلام السياسي، التي تنظر إلى الثورة الإيرانية كنموذج ملهم يمكن استنساخه.
وجد هذا المثقف العضوي نفسه في هذا الخضم الثقافي، محاصرا بإشكالات الواقع المتشابكة، وما يستتبع ذلك من مسؤوليات على عاتقه؛ من موقعه كأكاديمي وكمناضل في طليعة المجتمع، فدافع بقوة عن الثقافة الإفريقية في كتابه "أسئلة الثقافة في إفريقيا" (1996)، لدرجة بلغت مستوى الحديث عن "فلسفة إفريقية"، فمن الخطأ - حسب الاعتقاد - أن الفلسفة اختراع أوروبي، أوجدته المعجزة اليونانية؛ لأن الممارسة الفلسفية غرست في جسد الإنسان، منذ اللحظة التي دفن فيها الموتى، ثم تساءل عن معنى الحياة؟ كل الثقافات، حتى الشفوية، لها نصيب من القدرة على الفلسفة الخالصة، التي تخولها اتخاذ المسافة من تراثها، وإخضاعه للنقد.
كما دافع عن إسلام متنور يؤمن بحرية الفكر، متأثرا في ذلك بكتابات الفيلسوف الهندي محمد إقبال، الذي كتب عنه مؤلفا بعنوان "الإسلام والمجتمع المفتوح: الإخلاص والحركية في فلسفة محمد إقبال" (2001). كان هذا الأخير بمنزلة مقدمة لكتابه "كيف نتفلسف في الإسلام" (2008)، الذي بين فيه أستاذ الفلسفة الإسلامية وفلسفة المنطق في جامعة كولومبيا أن "الفلسفة ليست غريبة عن الإسلام، وليست التعبير الطبيعي عن أي ثقافة بعينها، ولا عن أي دين بعينه".
يحاول هذا الفيلسوف الإفريقي المسلم مجادلة ريمي براج المشهور بكتابه "قانون الرب" (2008) مستعينا بالتقاطعات التي يوجدها بين أطروحة الفيلسوفين محمد إقبال وهنري برجسون تارة، وبغنى وثراء تراث الاتجاهات الكلامية في التقليد الإسلامي "طبيعة الوحي، طرق التأويل، العبادة والعبودية..." للدفاع عن أطروحته حول الفلسفة الإسلامية.
لكن ديان؛ وهو بصدد التأسيس لفلسفة إسلامية، ينقطع عن الواقع الذي كان سببا رئيسا في تحركه؛ لأول مرة زمن الثمانينيات؛ فقد حصر الفلسفة داخل فكر ماضوي، لم يعد قادرا على التجاوب والتواصل مع واقعنا اليوم، فهو لا يفهم الفلسفة إلا كمطلق مفارق، على غرار الحديث عن الدين، بذلك يثبت فعلا أن هذه الفلسفة غريبة عن واقعها، وغير قادرة - كما تردد على الألسن - على مواجهته إطلاقا.
يسقط دارس فلسفة المنطق في مغالطة كبيرة، لا تقبل من أمثاله بحكم التخصص "المنطق"، حين يربط بشكل إلزامي بين الفلسفة والتنوير؛ فمعركة الفلسفة في العالم الإسلامي بالنسبة إليه تعادل موضوعا لمعركة التنوير والانفتاح والتحرر. وهنا يطرح السؤال عن أسباب هذا الربط الحتمي بين الفلسفة والتنوير، بمعنى هل كل فلسفة تنويرية فعلا؟ ألم تكن تيارات فلسفة حاضرة جنبا إلى جنب مع تيارات دينية لتبرير وشرعنة سياسات الاستعمار وحروب الاستعمار الجديد!
في سياق متصل يتساءل أحدهم، بتعبير مستفز وبليغ، حول اجترار السردية ذاتها المهيمنة في الغرب عن الفلسفة والتنوير، قائلا "ألم يصل التنوير نفسه مرحلة يحتاج فيها إلى تنوير؟ فالفلسفة لم تكتف فقط بإيجاد تماه بينها وبين التنوير، حتى أضحت الفلسفة هي التنوير ذاته، بل إنها في تماهيها ذلك أغلقت الباب أمام كل نقد للتنوير".
يختزل ديان وغيره ممن دافعوا عن "الفلسفة الإسلامية" بهذه الرؤية، الهوية التاريخية في الانتماء الديني فقط، فيما هي واقعيا أكبر من ذلك بكثير، ويغفلون ثانيا السياق التاريخي الذي أفرز هذه المفاهيم الأيديولوجية.
يتناسى هذا الفيلسوف الإفريقي - وهو يخوض غمار الصراع من أجل التأسيس أو الدفاع عن أطروحته - أن ما يستعين به من حجج تاريخية، تكون شديدة الصلة بالسياق التاريخي الذي أفرزها، غالبا ما يأتي على حساب فهم الواقع المعاصر، لذا يمكن أن نردد مع القائلين إن الحديث عن "فلسفة إسلامية" اليوم، مغاير منذ البدء لفعل التفلسف، لأن ذلك يعني أنه تفلسف في إطار الحدود التي رسمها الفقهاء، وبعبارة أخرى في إطار الإملاء، كما أن من يتحدث عنها يخطئ فهم الدين.
إن أي فيلسوف كان، في الشرق كما في الغرب، سيظل مسعاه قاصرا عن تقديم حلول إلى الإنسانية ما دام مؤطرا بسقف معين، ذلك بكل بساطة، لأن أزمات البشرية اليومية متشابكة؛ بفعل تداعيات العولمة، ما يعني بالضرورة والوجوب أن التفكير في الحل ينبغي أن يكون عند هؤلاء بأفق كوني وإنساني؛ أي أن يتحول إلى "فليسوف إنساني" من دون أي نعت آخر.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون