Author

هل فقدت البنوك المركزية دورها المركزي؟

|
أستاذ جامعي ـ السويد


يشهد عالم المال والاقتصاد تغيرات جوهرية، وما يطرأ من تطور على استخدام النقود وحفظها وإيداعها والتجارة بها من السرعة بمكان، حيث يصعب على أمهر الاختصاصيين التنبؤ بمساراتها.
النقود بدأت تختفي من التداول بشكلها الورقي أو المعدني في بعض الدول، ودخلنا عالم العملات الرقمية في غضون فترة قصيرة من الزمن.
حتى إن بعض الشركات العملاقة صارت تسك عملات رقمية خاصة بها، وأضحى العالم كأنه شبكة أخطبوطية متراصة تنتقل بواسطتها الأموال بالمليارات من مكان إلى آخر ومن يد إلى يد أخرى.
إزاء هذه التطورات المذهلة، هناك اليوم من يلوم البنوك المركزية في الغرب - وهي التي تمسك بزمام المال في يومنا هذا - أنها لم تتمكن من الخروج من إطار الإجراءات التقليدية التي يبدو أنها لم تعد نافعة في عالم اليوم.
لا يخفى أن هناك كثيرا من الباحثين والأكاديميين الذين يركزون على شؤون المال ودور البنوك المركزية في مواجهة التحديات التي تواجه السياسات النقدية في عصرنا هذا.
وزاد الاهتمام الأكاديمي بالبنوك المركزية بعد الأزمة المالية التي كادت أن تؤدي إلى انهيار النظام المصرفي الغربي برمته في عام 2008.
تلك الأزمة كانت أزمة تداول وأزمة مال لأنه فجأة وجدت المصارف أنها على حافة الإفلاس، ووجدت البنوك المركزية أن الأطر التقليدية التي تتبعها في مسارات مثل مراقبة المصارف ونسب الفائدة والمديونية لم يعد في إمكانها مواجهة التحديات الجديدة.
والخشية من تكرار أزمة عام 2008 تحوم حول أي اجتماع للبنوك المركزية في الغرب.
ونلاحظ اليوم بوادر حرب تجارية طاحنة ليست بين أمريكا والصين فحسب، بل بين أمريكا وكثير من الدول. وصارت كل دولة أو مجموعة اقتصادية تفكر ضمن نطاق حدودها للحفاظ على نظامها المالي من أي هزة اقتصادية.
وبدلا من مواجهة التحديات المالية والنقدية بصورة جماعية، نلاحظ أن البنوك المركزية، شأنها شأن الدول الصناعية الكبيرة، تعتمد سياسات العزلة، والأنكى أنها تبدو مقتنعة وراضية بمواقفها رغم خطورتها.
لا يجوز الركون إلى إجراءات البنوك المركزية رغم أنها حتى الآن استطاعت تطويع التضخم وتحقيق توازن في الميزانيات العمومية.
إحكام السيطرة على التضخم قد لا يكون نافعا دائما ومن ثم علينا الاعتراف بأن البنوك المركزية بدأت تفقد سيطرتها في هذا المضمار.
ها هي اليابان التي تقول إنها أخفقت في رفع نسبة التضخم رغم المحاولات الحثيثة لبنكها المركزي. في السابق كان في إمكان البنوك المركزية من خلال سياسات نقدية ومالية واضحة رفع أو خفض نسبة التضخم.
علينا الاعتراف بأنه لم يعد في إمكان البنوك المركزية السيطرة على نسب التضخم من خلال السياسات النقدية والمالية التقليدية.
ويبدو أن الخشية من أزمة مالية جديدة لها مبرراتها. لا شك أن أوروبا واليابان صارا على حافة ما يمكن أن نطلق عليه المرحلة النقدية الحرجة حيث يعانيان أزمة السيولة ولم تعد أمامهما إلا فسحة صغيرة جدا لتوسيع سياساتهما النقدية.
وحسب التقارير في الصحافة العالمية فإن الولايات المتحدة تبدو قاب قوسين أو أدنى من الوقوع في الفخ ذاته، لأنه تقريبا لم يعد في إمكان البنك الفيدرالي الأمريكي خفض نسب الفائدة بمعدلات ذات فعالية عند مواجهة مرحلة كساد أخرى، يبدو أنها على الأبواب، رغم الضغط الهائل الذي تمارسه عليه السلطة السياسية.
نسبة الفائدة في الولايات المتحدة في الأعوام العشرة الماضية كانت وما زالت ضمن نطاق 1.5 في المائة، وهذا معناه أن نطاق المناورة لتخفيف القيود على الائتمان لتحقيق تحفيز اقتصادي إضافي محدود. ومن ثم، فإن تجربة الأعوام الماضية أثبتت أن استخدام نسبة الفائدة سلاحا لإعادة التوازن للاقتصاد قد لا يثمر.
لا يبدو أن تخفيض سعر الفائدة سيقود دائما إلى التحفيز وزيادة الإنفاق والاستثمار والتشغيل. ويظهر أن خفض سعر الفائدة إلى ما دون نسبة محددة قد يقود إلى تحديد الإنفاق بدلا من إطلاق العنان له.
في السابق كانت الدورة الاقتصادية تنتظر بفارغ الصبر أي قرار من البنوك المركزية يؤدي إلى خفض نسبة الفائدة لتحفيز الاقتصاد وزيادة السيولة.
وهكذا بدأنا نقرأ اليوم أن خفض سعر الفائدة قد يؤدي إلى نتائج عكسية. ولأن الدورة الاقتصادية صارت، حتى إن دور سعر الصرف في السياسات المالية لم تعد له الأهمية ذاتها كما في السابق.
ولهذا لم تكترث الأسواق كثيرا بمحاولات الصين خفض قيمة عملتها كإجراء احترازي ضد الحرب الاقتصادية التي تشنها عليها الولايات المتحدة. وكذلك، يشعر البنك الفيدرالي الأمريكي أن خفض سعر الفائدة إلى معدلات تحت ما هي عليه الآن قد يؤدي إلى نتائج عكسية.
المسألة المهمة هي هل سيقاوم مسؤولو البنوك المركزية في الصين أو الولايات المتحدة أو غيرهما من الدول الصناعية الضغط السياسي والقواعد التقليدية، والعمل بما يمليه عليهم الواقع الاقتصادي الجديد؟

إنشرها