المعادن النادرة .. مستقبل اقتصادي

يبدو أن العالم مقبل على مرحلة اقتصادية جديدة، مرحلة يندمج فيها الاقتصاد الكلاسيكي مع اقتصاد المعرفة الحديث، فالاقتصاد الكلاسيكي يعتمد في تفسيره للثروة على حجم ما تمتلكه الشعوب من موارد طبيعية، وهذا جعل الصراع في العالم في فترة من فترات التاريخ على أشده بحثا عن تلك الأراضي التي تفيض بالثروات الطبيعية ويمكن استغلالها. كانت القارة الأمريكية كنز العالم المليء بالثروات الطبيعية، لكن خلال أواخر القرن الماضي وبدايات القرن الحالي استثار العالم تلك القدرات التي يمتلكها العقل البشري والأيادي الماهرة في صنع الثروة في أي دولة بغض النظر عما تمتلكه من ثروات طبيعية بشرط أن تتكامل سلاسل القيمة بين دول العالم وتكون التجارة حرة، وبهذا وجدت التجارة العالمية ومنظروها ومنظماتها ملاذا آمنا. كانت الثروات الطبيعية تتدفق على تلك الدول التي لديها عقول من أجل إعادة صياغة الثروة بالاستخدام الكفء لمفاهيم سلاسل القيمة، وهيمنت هذه الصورة على الاقتصاد الحديث وبدأ الذكاء الاصطناعي يأخذ مكانه في تفسير ثروة الأمم، ودخلت مفاهيم حديثة مثل الطاقة المتجددة والحفاظ على البيئة وتنمية الموارد البشرية كأهم محركات الاقتصاد الحديث وقفزت إلى المنصة مناطق عالمية مثل وادي السيليكون، وأصبح الصراع على أشده بين من يمتلكون الفكرة والمعرفة وحقوقها وبين من يجدون سهولة الوصول للثروة بمجرد سرقتها. لكن يبدو أن الأمور في الاقتصاد لا تستقر على حال فما تثيره المعادن النادرة اليوم من أطماع كثيرة على الصعيد العالمي وما حفزته من صراع بين قوى العالم الاقتصادي اليوم يجعل العودة إلى مفاهيم الاقتصاد الكلاسيكي قريبة، وبالتأكيد سيجد منظروه حالة من السرور لهذه التحولات.
بحسب ما نشرته "الاقتصادية" من وكالات الأنباء فقد بات بعض العناصر الطبيعية لا غنى عنها في الصناعات المتقدمة تكنولوجيا، وهي 17 عنصرا تقريبا، توصف بالنادرة ليس لأنها غير موجودة، بل بعضها موجود بوفرة ضمن القشرة الأرضية في كل جغرافية العالم على غرار الرصاص والنحاس، لكن "الندرة" تتأتى من واقع أن العثور على احتياطيات تجارية أمر نادر. واليوم يعمل معهد الجيوفيزياء الأمريكي بشكل منتظم على سبر الأراضي الأمريكية بحثا عن حقول قابلة للاستغلال. أهمية هذه المعادن تنبع من كونها ضرورية لصناعة بطاريات الآليات الكهربائية، وشاشات الهواتف الذكية، والصواريخ الموجهة وغيرها، فاليوروبيوم الذي يتوهج بالأحمر يستخدم في صناعة شاشات التلفزيون، أما النيوديميوم، وهو من المغناطيسيات النادرة، فيستخدم في صناعة سبائك المغناطيس المصغرة. كما يدخل معدن اللناثانم في تركيب البطاريات القابلة للشحن والمستخدمة بدورها في صناعة منتجات إلكترونية، والمركبات الهجينة تستخدم محركين، مثلا واحد كهربائي وآخر يعمل بالاحتراق، ولهذا يعرف المعهد البريطاني للمسح الجيولوجي المعادن النادرة بأنها "مجموعة عناصر تستخدم في أكبر قدر من المنتجات الاستهلاكية في العالم"، وهذا يعني أن من يتملكها ويسيطر على إنتاجها سيسيطر على المنتجات الاستهلاكية كافة في العالم. وهنا يتضح معنى الصراع القائم بين الولايات المتحدة والصين، فهذه الحرب التجارية تثير الرعب بشأن سلاسل الإنتاج للاقتصاد المعرفي الرقمي الذي تقوده الولايات المتحدة وهو ما يثير خشية واشنطن من بكين، خاصة أن شركاتها التكنولوجية المتقدمة، المدنية منها والعسكرية، تعتمد بشكل هائل على المعادن النادرة، التي تعمقت المخاوف بشأنها حين زار الرئيس الصيني مصنعا لمعالجة المعادن النادرة، ما تم اعتباره تهديدا محتملا بعرقلة الصين صادرات المعادن النادرة التي جرت معالجتها، وهي المناورة التي سبق أن لجأت إليها الصين عام 2010، حين أوقفت بكين فجأة صادراتها من المعادن النادرة إلى اليابان في سياق الرد على خلاف حدودي.
الاقتصاد المعرفي الذي يبني استراتيجية على سلال الإمداد وعلى مفاهيم مثل حماية البيئة يواجه اليوم تهديدا كبيرا مع الحرب التجارية، فوفقا للمعهد الأمريكي، فإن "المعادن النادرة في الولايات المتحدة تختلط بالتربة والأرض مع مواد معقدة أخرى، وهو الأمر الذي أدى إلى إغلاق المنجم الأمريكي الوحيد مرتين، بينما الصين تمتلك أهم احتياطيات المعادن النادرة بنحو 44 مليون طن، فيما تمتلك كل من فيتنام والبرازيل 22 مليون طن. وتستفيد الصين من ميزتين، وفقا للمعهد الأمريكي، الأولى أن معادنها موجودة في الرواسب الطينية، ما يسهل استخراجها، فيما تكمن الثانية في المعايير البيئية الأقل صرامة مقارنة بدول أخرى. وهكذا يبدو أن الصراع على الموارد الطبيعية يعود إلى الواجهة طالما لم تسن قوانين دولية صارمة بشأن تهديدات سلاسل القيمة التي يرتكز عليها الاقتصاد المعرفي، وفي الوقت الراهن فإن الدول الثرية جدا في المستقبل هي التي تمتلك اقتصادا معرفيا مدعوما بثروات طبيعية هائلة من المعادن النادرة، وهنا تظهر الصين وحيدة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي