أخبار اقتصادية- عالمية

بريطانيا تتهيأ لأسوأ سيناريو في نقص الغذاء والدواء .. خسائر ضخمة وارتفاع أسعار لا فرار منه

بريطانيا تتهيأ لأسوأ سيناريو في نقص الغذاء والدواء .. خسائر ضخمة وارتفاع أسعار لا فرار منه

مع اقتراب موعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي "بريكست"، والمقرر أواخر تشرين الأول (أكتوبر) المقبل، ومع ظهور المؤشرات على أن عملية الخروج ستتم دون توصل الطرفين إلى اتفاق بينهما بما يحدد ملامح علاقتهما المستقبلية تدور الأسئلة الآن حول كيفية تأثير المغادرة دون صفقة أو اتفاق في حياة المواطنين في المملكة المتحدة.
أبرز تلك الأسئلة يدور حول تكلفة المواد الغذائية، ومدى الزيادة المتوقعة فيها، ومدى توافر الدواء والوضع العام للاقتصاد، وطبيعة الجهود الحكومية لإنقاذ الشركات البريطانية المتضررة من عملية الخروج، إضافة إلى عشرات الأسئلة الأخرى، ومن بينها قدرة بريطانيا على الحفاظ على مكانتها في استقطاب العقول العلمية، والحفاظ على وضعها المميز كقبلة للطلاب الأوروبيين الراغبين في الحصول على تعليم مميز.
لا شك أن قضية الغذاء من حيث توافره وأسعاره وجودته، والدواء من حيث توافره في الصيدليات والمستشفيات العامة، قضيتان أساسيتان تؤرقان صانع القرار السياسي البريطاني، ويدخلان ضمن الملفات الأساسية التي تشهد جدلا واضحا بين دعاة الخروج وخصومهم من أنصار البقاء الأوروبي.
في الوقت الحالي، تنتج المملكة المتحدة نحو 60 في المائة من احتياجاتها الغذائية، وتستورد 30 في المائة من طعامها من الاتحاد الأوروبي و10 في المائة من باقي العالم.
وإذا لم تتوصل إلى صفقة مع الاتحاد الأوروبي، وتمت عملية الانفصال دون اتفاق، وهو سيناريو يعده كثيرون سيئا، فسيتعين على الحكومة البريطانية تنفيذ خطة طوارئ تواجه على الفور معضلة توفير 30 في المائة من الاحتياجات الغذائية لشعبها.
وتقول لـ"الاقتصادية"، راشيل شانكر نائبة المدير التنفيذي لاتحاد مستوردي المواد الغذائية إن هناك كثيرا من العوامل المحددة لأسعار المواد الغذائية، لكن هناك ثلاثة أشياء رئيسة تؤثر في أسعار المواد الغذائية في بريطانيا، كنتيجة مباشرة للخروج من عضوية الاتحاد الأوروبي، وهي التعريفة الجمركية المفروضة على السلع المستوردة، والتغيرات التي ستطرأ على قيمة الجنيه الاسترليني، والعوامل التي قد تبطئ من حركة السلع العابرة للحدود مثل عمليات التفتيش التي تتم عند الحدود.
وتضيف شانكر، أن العامل الأول سيلعب دورا رئيسا في رفع أسعار المواد الغذائية المستوردة، ففي الوقت الحالي وبسبب عضويتنا في الاتحاد الأوروبي لا يدفع مستوردو السلع الغذائية أي تعريفة جمركية على المنتجات الغذائية المستوردة من بلدان الاتحاد، وهذا الأمر سيتغير تماما بعد الانفصال.
ويشير عديد من الدراسات إلى أن أسعار اللحوم سترتفع بنحو 5.8 في المائة، والزيوت والدهون 7.8 في المائة، والخضراوات 4 في المائة، والألبان بما يقارب 8.1 في المائة، نتيجة التعريفات الجمركية التي ستفرضها بريطانيا على المنتجات الغذائية المستوردة من الاتحاد الأوروبي.
ويرى أليكس فيشر الباحث الاقتصادي، وأحد أنصار الخروج من الاتحاد الأوروبي، أنه "يمكن للمملكة المتحدة خفض التعريفة الجمركية أو حتى إلغاؤها كليا، وهذا سيؤدي إلى خفض الأسعار بالنسبة للمستهلكين، وتشير دراسة لجامعة ساسكس إلى أن التعريفة الجمركية الصفرية على الواردات الغذائية ستخفض أسعار الغذاء بنحو 1 في المائة".
وتواجه فكرة تعريفة جمركية صفرية لخفض أسعار الغذاء، برفض من المزارعين البريطانيين، لأنها تعني عمليا إغراق الأسواق المحلية بسلع منافسة بما ينجم عنها من خسائر ضخمة لهم.
إلا أن بعض الخبراء يشيرون إلى أن مخاوف المزارعين البريطانيين مرتبطة بعدد محدود من المواد الغذائية، أما بالنسبة للخضراوات الطازجة والفاكهة فإن الأمر مختلف.
ويوضح لـ"الاقتصادية"، روبرت دويل من اتحاد التجزئة البريطاني، أن "في شهر آذار (مارس) لا يوجد إنتاج بريطاني تقريبا من الطماطم ونستورد 80 في المائة من احتياجاتنا والخس 90 في المائة، وفي ظل الأوضاع القلقة لدى المستهلكين من نقص المعروض، سيزداد الطلب من أجل التخزين، ولذلك فإن ارتفاع أسعار المواد الغذائية أمر لا فرار منه.
وبالنسبة لبعض الاقتصاديين، فإن الأمر سيزداد سوءا نتيجة التغيرات السلبية في قيمة الجنيه الاسترليني، فالانخفاض المتوقع في قيمة العملة البريطانية، سيجعل شراء الأشياء من الخارج ومن بينها المواد الغذائية أغلى ثمنا.
واعتبر الدكتور ستيوارت باول أستاذ الاقتصاد البريطاني في جامعة شيفيلد، أن التأثير الأكبر في أسعار المواد الغذائية في الأسواق البريطانية في مرحلة ما بعد الخروج، سيعود إلى التدابير الجمركية التي ستتخذها الحكومة البريطانية.
ويضيف لـ"الاقتصادية"، أن التدابير الجمركية وعمليات التفتيش التي ستتم في المعابر الحدودية ستتسبب في تأخير المنتجات الغذائية المستوردة، وتقليص فترة الصلاحية الاستهلاكية، وسيمثل ذلك تكلفة إضافية للشركات، وسيرفع دائما من أسعار المواد الغذائية، فكل يوم تأخير للشاحنة سيكلف بين 005-850 استرليني، وسيتحملها المستهلك بالأساس، حتى وإن خفضت بريطانيا التعريفة الجمركية أو حسنت سعر صرف الاسترليني، فإن الأسواق ستعاني دائما انخفاض المعروض عن الطلب لبعض السلع، وسيزيد ذلك من الرغبة التخزينية لدى المستهلكين، ومن ثم سترتفع أسعار المواد الغذائية في الأسواق المحلية".
ولا يختلف القلق كثيرا في قطاع الأدوية في المملكة المتحدة عنه في قطاع المنتجات الغذائية، فهناك عديد من الأسئلة بشأن وضع مخزون الأدوية في المملكة المتحدة، خاصة بعد أن حذرت الرابطة التجارية أن الأسابيع الماضية شهدت نقصا في 160 عقارا بسبب انخفاض المخزونات وضغط الأسعار مع اقتراب الموعد النهائي لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
وزارة الصحة البريطانية من جهتها، لم تنف نقص المعروض من العقاقير، لكنها أشارت إلى أنه "لا يوجد دليل" على أن ذلك النقص يرتبط بالخروج من الاتحاد الأوروبي.
ونصحت وزارة الصحة في العام الماضي شركات الأدوية بتخزين احتياجات ستة أسابيع على الأقل من الإمدادات الطبية، تحسبا لأي انعكاسات سلبية للخروج من الاتحاد الأوروبي.
وفي الوقت الراهن، تستورد بريطانيا شهريا 37 مليون عبوة من الأدوية من الاتحاد الأوروبي والمنطقة الاقتصادية الأوروبية بينما تصدر لهم 45 مليون عبوة، ومن هنا فإن التأخير طويل الأجل على المعابر الحدودية نتيجة الإجراءات الجمركية الجديدة قد يهدد إمدادات الأدوية وغيرها من منتجات الرعاية الصحية الحيوية.
لكن الفرق من وجهة نظر القطاع الطبي، أنه بعكس الأغذية حيث ستخرج بريطانيا باعتبارها الخاسر الأكبر، فإن الضرر قد يصيب القطاع الصحي البريطاني والأوروبي في آن واحد نتيجة العلاقة الترابطية بينهما.
ويوضح لـ"الاقتصادية"، الدكتور جاري بيرن مدير قطاع الإمدادات الطبية في وزارة الصحة البريطانية سابقا، أن "هناك مجالا أوسع مع الأدوية أكثر من المواد الغذائية لزيادة المخزون من بعض الأدوية مثل الأقراص، لكن الأدوية المستوردة مثل الأنسولين غالبا ما تحتاج إلى تبريد وبالتالي قد تشكل تحديا لوجستيا كبيرا".
وفي محاولة لتجنب الاضطرابات، بدأت شركة "إسترا زينكا" للمستحضرات الطبية ومقرها المملكة المتحدة، في إعداد "شبكة أمان" بزيادة مخزونها من الأدوية في جميع أنحاء أوروبا بنسبة 20 في المائة تقريبا، استعدادا لتداعيات خروج بريطانيا من التكتل، وهو الإجراء ذاته الذي اتخذته بعض الشركات الأوروبية الأخرى وتحديدا في فرنسا.
إلا أن الدكتور كريس رايت الاستشاري في شركة "جلاكسو سميت كلين" للمستحضرات الطبية، يعد نقص الأدوية الناجم عن الخروج من الاتحاد الأوروبي قضية وقتية، قد يتطلب الأمر بعض الوقت للتغلب على آثارها السلبية، لكنه يعتقد أن المشكلة تكمن في مكان آخر.
ويضيف رايت، أن هناك "شركات بريطانية بدأت في نقل ترخيص التسويق إلى الاتحاد الأوروبي لأكثر من 1000 دواء مسجل في المملكة المتحدة وتحديدا إلى ألمانيا، وهذا سيكون له تأثير سلبي في مستقبل صناعة الدواء في المملكة المتحدة، إذ سيتحول جزء كبير منها إلى دول الاتحاد، ومع مرور الوقت ستزداد فاتورة استيراد الأدوية البريطانية".
لكن هذا التحدي طويل الأمد، لا ينفي وجود تحديات عاجلة بالنسبة لأولئك الذين يعتمدون على منتجات ذات استخدام طبي وتكون صالحة لعدد محدود جدا من الأيام، وفي بعض الأحيان ساعات، مثل نظائر الراديو التي تعد ضرورية لفحص مرضى السرطان.
ويقول لـ"الاقتصادية"، الدكتور كيفين فوليت رئيس قسم النظائر المشعة في مستشفى أوربينجتون إن"الخروج دون صفقة مع الاتحاد الأوروبي سيكون صعبا للغاية لمجتمع الطب النووي، لأن نحو 60 في المائة من المواد المشعة التي نستخدمها تأتي من الاتحاد الأوروبي، ما يؤثر في نحو 600 ألف مريض سنويا، والآن تصل تلك المواد عن طريق البر والسكك الحديدية والبحر، وإذا وصلت المواد بعد فوات الأوان فقد لا تكون صالحة للاستعمال، ومن ثم سيكون من الضروري أن تصل عن طريق الشحن الجوي السريع، ما سيرفع تكاليف العلاج".
إحدى المعضلات الأخرى التي تركز عليها الحكومة البريطانية في إطار تحديات فك الارتباط مع الاتحاد الأوروبي يتمثل في كيفية مساعدة الشركات الصغيرة والمتوسطة التي ستكون الأكثر تضررا عند الخروج من الاتحاد.
الدكتورة كارن أوبرين أستاذة محاسبة الشركات في جامعة ليدز، تشير لـ"الاقتصادية"، إلى أن الخروج الأوروبي سيؤدي إلى انخفاض مستويات الاستثمار في رأس المال، وتقلص فرص الحصول على التمويل الخارجي، وتقهقر مستويات النمو، والقدرة على تطوير المنتجات، ومستويات تدويل الأعمال، وتلك المشكلات يمكن للشركات الكبيرة مواجهتها، لكنها ليست كذلك بالنسبة للشركات المتوسطة والصغيرة، خاصة مع انخفاض رأس المال الاستثماري، الذي يضعف ويقوض قدرتها على النمو والازدهار.
وبالطبع، فإن هذا النوع من المخاطر يزداد حدة بالنسبة للشركات التي تعتمد على المنتجات الابتكارية الموجهة نحو التصدير، وتعد رأس حربة النمو الاقتصادي المرتفع.
وبطبيعة الحال تدرك الحكومة البريطانية خطورة هذا التحدي على الوضع الاقتصادي العام، وهو ما قد يدفعها إلى زيادة الدعم المالي الحكومي للشركات الصغيرة والمتوسطة.
إلا أن ماثيو ميليس الباحث الاقتصادي يقول لـ"الاقتصادية"، إنه "ربما يكون الدعم المالي الحكومي أمرا ضروريا بشكل سريع وفي الأمد القصير، لكن لا يمكن أن يمثل حلا في الأجلين المتوسط والطويل، لأنه يوجد ضغطا ماليا على الميزانية".
ويعتقد ميليس أن الحل يكمن في توقيع اتفاقيات دولية بين بريطانيا ودول الكومنولث، ويضيف، أن بريطانيا أهملت الكومنولث لفترة طويلة، وحان الأوان لزيادة التركيز على المجموعة، ليس فقط من منطلق السوق لتصريف السلع البريطانية، لكن من منطلق أوسع للاستفادة من التقدم الهائل الذي حدث في عديد من اقتصادات دول الكومنولث مثل الهند وأستراليا وجنوب إفريقيا، إذ يمكن بناء شراكة فعالة بين الشركات البريطانية الصغيرة والمتوسطة، خاصة العاملة في مجال التكنولوجيا المتطورة مع نظرائها في بلدان الكومنولث، وهذا لن يسمح بمزيد من التكامل الاقتصادي لدول المجموعة فقط، بل سيضمن للجميع درجة أعلى من النمو الاقتصادي.
ولا شك أن المخاوف من ارتفاع أسعار المنتجات الغذائية أو شحها في الأسواق، والتحديات التي تواجه قطاع المستحضرات الطبية، أو المصاعب المتوقعة للشركات الصغيرة والمتوسطة ربما تمثل جميعا تحديا عاجلا للحكومة البريطانية نتيجة الخروج الأوروبي، وما ستخلقه عملية الخروج من ضغوط شعبية عليها لإيجاد حل لتلك المشكلات.
لكن هناك تحديات من نوع آخر ربما تمثل بالنسبة للحكومة البريطانية أو أي حكومة بريطانية مقبلة، تحديا خطيرا يتعلق بمستقبل البلاد ومكانتها الدولية.
في هذا السياق، يقول لـ"الاقتصادية"، البروفيسور مايك دينفيز رئيس جامعة جلاسكو سابقا، إن "الخروج من الاتحاد الأوروبي دون صفقة يعد أحد أكبر التهديدات التي واجهتها الجامعات البريطانية عبر تاريخها الطويل، وليس من قبيل المبالغة القول إن بعض الجامعات ستحتاج إلى عقود للتعافي، فالخروج من التكتل سيقوض البحث العلمي، ويهدد مساهمة الجامعات البريطانية في الاقتصاد البريطاني البالغة 21 مليار جنيه استرليني".
ويضيف دينفيز أن "الخروج دون اتفاق يعني عدم قدرتنا على الوصول إلى شبكات البحوث الأوروبية، كما سنفقد قدرتنا على استقطاب باحثين رواد في مختلف المجالات، بسب الأوضاع المالية الصعبة التي سنواجهها، بينما سيكون لدى دول أوروبية أخرى مثل ألمانيا لا تواجه مصاعب مالية القدرة على استقطاب هؤلاء الباحثين".
لكن الصحافي هنري روني المؤيد للخروج من الاتحاد الأوروبي حتى دون صفقة، يشير إلى أن تلك "الهستيريا" التي يقودها أنصار البقاء غير صحيحة.
ويضيف لـ"الاقتصادية"، أنهم "يغمضون أعينهم عن مبلغ 49 مليار جنيه استرليني لن ندفعها إذا خرجنا دون اتفاق، وجزء كبير من تلك الأموال سيذهب لتعويض الجامعات البريطانية في مواجهة أي خسائر في الأمد القصير، كما سيدعم القدرة البحثية لجامعاتنا".
لكن حتى يحدث ذلك، فإن الأرقام الحالية لا تدعم قناعات روني، فهناك تراجع بالفعل في أعدد طلاب الاتحاد الأوروبي في المملكة المتحدة، إذ تظهر بيانات الجامعات البريطانية انخفاضا بنسبة 3 في المائة في طلاب الاتحاد الأوروبي بفعل عدم اليقين السياسي، ويتخوف بعض الأكاديميين من مقترحات راهنة بفرض قيود جديدة على طلاب الاتحاد الأوروبي بعد الخروج، فعدد طلاب التكتل الذين يدرسون في بريطانيا حاليا، يبلغ 130 ألف طالب، ولن يكون بمقدور الجامعات البريطانية تحمل الأعباء الإدارية لهذا العدد الكبير من الطلاب.
وتعي الحكومة البريطانية المخاطر السلبية لتقلص قدرات جامعاتها على جذب الطلاب الأجانب خاصة من الاتحاد الأوروبي، إذ يقلص ذلك مكانتها كمركز للتأثير في الأجيال الأوروبية المقبلة، ولهذا تعهدت بمواصلة الترحيب بالطلاب الأوروبيين، من خلال نظام تأشيرات خاص وأكثر بساطة، بل وتسهيل البقاء والعمل في المملكة المتحدة بعد الخروج.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من أخبار اقتصادية- عالمية