التدفقات الرأسمالية والمد الصاعد «3 من 3»

من المؤكد أن كثيرا من اقتصادات الأسواق الصاعدة قد فهم أنه ينبغي أن يبني احتياطيات بالنقد الأجنبي في مواجهة الارتفاع المتواصل في العملة المحلية. ويمكن النظر إلى قيام عدد من الأسواق الصاعدة بشراء أصول، مثل سندات الخزانة الأمريكية، باعتباره طلبا واسع الانتشار على أصول تعد مأمونة. وفي الواقع، ربما كان محاولة لوقف حركة ارتفاع سعر العملة، حتى مع تجنيب مبالغ نقدية بغرض التصدي للانخفاض الحتمي في العملة، وبالطبع، يفضي هذا التدخل إلى تفاقم الخطر الأخلاقي، لأن الشركات ربما أفرطت في الاقتراض بعملة أجنبية، عندما ترى تراجع المخاطر متى عمل البنك المركزي على تمهيد التقلب. لهذا السبب، تحاول بعض اقتصادات الأسواق الصاعدة، مثل الصين والهند، السيطرة على اقتراض الشركات بعملات أجنبية.
لسوء الحظ، لا تملك سلطات البلدان المتلقية للتدفقات سوى عدد قليل من الأدوات لإدارة التدفقات الرأسمالية التي لن تؤدي كذلك إلى اضطراب الاقتصاد المحلي بشكل كبير. والأهم من ذلك أن تشديد السياسة النقدية في البلد المتلقي للتدفقات يثير مخاطر من تحويل العملات التي تتكون منها قروض الشركات نحو الدولار الأقل سعرا؛ ومن ثم مخاطر من زيادة الوضع سوءا بارتفاع سعر العملة المحلية. ومن ناحية أخرى، فإن انتهاج سياسة نقدية محلية أكثر تيسيرا سيشجع التوسع الائتماني المفرط.
ويزداد وضوح الميل نحو الانتعاش والكساد في البلدان المتلقية للتدفقات عندما يؤدي التضخم الهادئ إلى جعل السياسة النقدية في بلد المصدر تيسيرية على مدى فترات طويلة، على غرار الوضع في العقود الأخيرة. ومن منظور البلدان التي تتلقى التدفقات، فإن الالتزام بالحفاظ على "مستوى منخفض لفترة طويلة" في بلدان المصدر هو التزام بدعم تيسير أوضاع السيولة بصفة مستمرة في البلدان المتلقية - حتى تعود. وينطوي ذلك على تراكم التمويل بالديون والهشاشة المالية بشكل كبير. ولا عجب من إعراب صناع السياسات في الأسواق الصاعدة عن قلقهم بشأن السياسة التيسيرية المستمرة في بلدان المصدر، وكذلك إمكانية عودتها من حيث أتت بصورة مفاجئة. ولا تناقض هذه المخاوف بعضها مع بعض، فأحدها ناتج من الآخر. ما مدى مسؤولية بلدان المَصدَر عن هذه التداعيات؟ أشار الرأي القائل إن التداعيات ناتجة في الأساس من عدم كفاية تصحيح سعر الصرف في البلدان المتلقية للتدفقات إلى أنه ليس عليها أي مسؤولية. وهذا بالفعل هو الرأي الذي تعتنقه بعض البنوك المركزية في الاقتصادات المتقدمة، التي تركز على صلاحياتها المحلية. ومن الصعب أن نعرف ما إذا كانت ستحتفظ بالرأي نفسه إذا كانت صلاحياتها تتضمن كذلك بعض عناصر المسؤولية الدولية. ويقر آخرون أنه ربما كانت هناك تداعيات، لكنهم لا يرون أي مسؤولية عن تغيير سلوك البلدان التي تخرج منها التدفقات. وبدلا من ذلك، فإنهم يركزون على ما يسمى سياسات السلامة الاحترازية الكلية وإجراءات التدفقات الرأسمالية في البلدان المتلقية، كما يفعل صندوق النقد الدولي. ومع أن نطاق سياسة السلامة الاحترازية الكلية ضيق - ليس للسلطات المعنية بالسلامة الاحترازية الكلية صلاحيات إلا على أجزاء من النظام المالي، بينما السياسة النقدية، كما يقول جيريمي شتاين، تتغلغل "في النظام كله". ولم يتبين مدى فاعلية هذه السياسات بعد - فإن رصد مخصصات رؤوس الأموال الديناميكي للبنوك في إسبانيا ربما مهد دورة الائتمان، لكنه بالتأكيد لم يتجنب تجاوزاتها. والقضية الأعم ليست هي استبعاد استخدام أدوات السلامة الاحترازية الكلية، إنما هي تأكيد احتمال نشأة الحاجة إلى أدوات متعددة.
ودعا بعض خبراء الاقتصاد إلى وضع قواعد للسياسة النقدية وتقييد الإجراءات التي تتخذها البنوك المركزية في البلدان التي تخرج منها التدفقات في ظل بعض الظروف. على سبيل المثال، تشير دراسة Mishra and Rajan 2019 إلى أنه بينما ينبغي إتاحة المجال للسياسة النقدية العادية، يمكن استبعاد أنواع معينة من إجراءات السياسة النقدية غير التقليدية في بيئات معينة نتيجة حجم التداعيات السلبية الكبيرة التي تولدها - كاستهجان التدخل المستمر من اتجاه واحد في سعر الصرف حتى وقت قريب. والالتزام بهذه القواعد لن يكون مسألة إيثار. فالبلدان التي وقعت اتفاقية تأسيس صندوق النقد الدولي تقبل بالفعل مسؤوليتها عن العواقب الدولية للإجراءات من جانبها. وهذه القواعد ستضع حدا لسلوك البنوك المركزية في حالات الضرورة القصوى دون تغيير صلاحياتها أو دون أن يقتضي ذلك التنسيق على المستوى الدولي. ببساطة، ستتجنب البنوك المركزية السياسات التي تتجاوز القواعد. وبالفعل، فإن "مجموعة الشخصيات البارزة"، التي كلفتها مجموعة العشرين بوضع اقتراحات بشأن تغيير البنيان المالي العالمي، أشارت إلى الحاجة إلى "إطار دولي يقوم على قواعد، ويستند إلى قاعدة من الأدلة الشاملة المتطورة.. لتقديم مشورة بشأن السياسات تسعى البلدان من خلالها إلى تجنب السياسات التي تترتب عليها تداعيات كبيرة، وتطوير أسواق صلبة، وتحقيق منفعة من التدفقات الرأسمالية، بينما تدير المخاطر التي تهدد الاستقرار المالي". وتضيف، أن "صندوق النقد الدولي ينبغي أن يضع إطارا يمكن البلدان التي تخرج منها التدفقات من "تحقيق أهدافها المحلية مع تجنب انتشار تداعيات دولية كبيرة". وهناك احتمال آخر مثير للاهتمام؛ إذ يشير نموذجنا إلى أن تيسير السياسة النقدية لفترة طويلة يمكن أن يعزز التمويل بالديون، ويضخم أسعار الأصول، ويزيد المخاطر التي تهدد الاستقرار المالي في بلدان المصدر. وإذا كانت السياسات النقدية للبنوك المركزية في بلدان المصدر تتضمن صلاحية الحفاظ على الاستقرار المالي المحلي، فيجوز تعديل إجراءات السياسات على نحو يخفف كذلك من التداعيات الخارجية.
وبطبيعة الحال، لا يزال أمامنا طريق طويل للتوصل إلى الأدلة والفهم اللازمين لوضع إطار دولي قائم على قواعد. غير أننا قطعنا شوطا طويلا أيضا. ونحن في الأغلب لم نعد نضع اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية كبش فداء لإصدار رد فعل غير ملائم أمام التدفقات الرأسمالية الداخلة. وإذا كنا نرغب في إيجاد السبل لاستخدام التدفقات الرأسمالية بصورة جيدة - لتلبية احتياجات الادخار في البلدان الغنية التي تبرز فيها ظاهرة الشيخوخة، وفي الوقت نفسه تلبية احتياجات تمويل اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية، دون التعجيل بوقوع أزمات دورية - فعلى البلدان أن تصنع سياساتها السيادية من واقع مسؤوليتها الدولية لتجنب وقوع تداعيات كبيرة. وربما كانت أفضل وسيلة لمعالجة هذه المشكلة متعددة الوجوه هي استخدام البلدان أدوات متعددة بطريقة مسؤولة، مع قيام صندوق النقد الدولي بإجراء البحوث اللازمة، ووضع إطار تتفق عليه الأطراف كلها، ودعوة من يتخلفون عن السداد عادة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي