Author

توصيات صندوق النقد .. «شاوروهم ثم خالفوهم»

|
كاتب ومستشار اقتصادي


"شاوروهم ثم خالفوهم"، أو كما نقولها بالعامية: "شاوروهم ثم اعصوهم"، هي أول ما طرأ على بالي وأنا أقرأ بعض توصيات خبراء صندوق النقد الدولي للمملكة بعد مشاورات ونشر بنود المادة الرابعة المتعلقة بتقييم الصندوق لاقتصادنا للعام الحالي. وإن كان من حق الصندوق أن يوصي فإن من حقنا في المملكة أن نرفض توصياته ونخالفها ولا سيما أن علاقة المملكة بالصندوق لا تتجاوز المشاورات والتوصيات ولسنا مقترضين من الصندوق ليفرض علينا أجندته وشروطه.
تاريخيا أنشئ صندوق النقد في تموز (يوليو) 1944 باتفاق بين ممثلي 45 حكومة في مؤتمر عقد في بريتون وودز الأمريكية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وهي الاتفاقية التي شهدت أيضا ميلاد البنك الدولي وهو الشقيق التوأم للصندوق، ولذا يطلق على البنك والصندوق مؤسستا بريتون وودز، وبدأ عمل الصندوق فعليا في كانون الأول (ديسمبر) 1945.
يبلغ عدد الدول الأعضاء في الصندوق اليوم 189 دولة، وتأتي السعودية في المرتبة السابعة من حيث قوتها التصويتية بـ3.3 في المائة "ما يعادل حجم مساهمتها في رأسمال الصندوق"، وتملك المملكة مقعدا دائما في المجلس التنفيذي لإدارة الصندوق الذي يتألف من 24 مديرا يرأسهم المدير العام للصندوق.
ولعل سيطرة الدول الكبرى وعلى رأسها أمريكا التي تملك أكبر قوة تصويتية في الصندوق "بما يعادل مساهمتها في رأسمال الصندوق البالغة 17.6 في المائة"، ثم اليابان ثم ألمانيا وفرنسا وبريطانيا على الأصوات في الصندوق هو ما جعل البعض ينظر إلى الصندوق على أنه مؤسسة "مسيسة"، أي: تدخل السياسة في حسبانه عند اتخاذ قراراته الاقتصادية، وهو أمر لا أثبته ولا أنفيه وإن كنت شخصيا لا أرى دقته لأن من حق أي دولة رفض توصيات الصندوق ما لم تطلب تدخله وتقترض منه.
والصحيح هو أن الصندوق اكتسب كراهية الشعوب، لأنه حينما يقرض بلدا تعرض لأزمة مالية فإن تدخله يكون جارحا ومزعجا للشعوب، لأنه يطالب الحكومة مباشرة بزيادة الضرائب وتقليل الإعانات وهي تدخلات تمس معيشة الناس مباشرة، وبسبب هذا تتلافى الدول طلب تدخل الصندوق ولا تلجأ إلى مساعدته إلا إذا لم تجد منقذا غيره، لأن تدخلاته جارحة ومزعجة على المستويين الاجتماعي والمعيشي للناس.
عودة لبيان خبراء الصندوق عن الاقتصاد السعودي لهذا العام، فمن الملاحظ أن الصندوق أشاد بالإجراءات والإصلاحات التي قامت بها الحكومة فقال: "بدأت الإصلاحات الاقتصادية في المملكة تحقق نتائج إيجابية، فقد انتعش النمو غير النفطي، وزادت مشاركة النساء في سوق العمل وارتفعت مستويات التوظيف، كما أسهم التطبيق الناجح لضريبة القيمة المضافة في زيادة الإيرادات غير النفطية، وساعد تصحيح أسعار الطاقة على خفض استهلاك الفرد من البنزين والكهرباء، وهناك تقدم جيد في إصلاحات الأسواق المالية، والإطار القانوني، وبيئة الأعمال" (البيان الختامي، 15 مايو، 2019).
وأوصى الصندوق بعدة أمور من بينها: "أن تعمل الإصلاحات على زيادة قدرة المواطنين على المنافسة للحصول على وظائف في القطاع الخاص، ورفع مستويات الاستثمار الأجنبي المباشر، وزيادة التمويل المتاح للشركات الصغيرة والناشئة"، وهي توصيات نتفق معها، وقد بدأت الحكومة من خلال "رؤية 2030" بالعمل عليها فعليا.
نقطتا الخلاف مع الصندوق هما: الأولى: توصيته برفع معدل ضريبة القيمة المضافة البالغ 5 في المائة حاليا، لأنه يرى أن هذا المعدل منخفض مقارنة بالمعايير العالمية، الأخرى: تخفيض الأجر الذي يمكن أن يقبل به العاملون في الحكومة نظير العمل في القطاع الخاص.
والتعليق الاقتصادي على الأولى يقول إن النمو في الاقتصاد السعودي يعتمد على كبر حجم الاستهلاك المحلي، وبالتالي فإن رفع الضريبة سيقلل الطلب الاستهلاكي، ما يعني زيادة ركود الاقتصاد الحالي الذي للتو بدأت بوادر التعافي منه تدب في السوق تدريجيا.
أما الأخرى فهي توصية غريبة فعلا، فلو أوصى الصندوق بتخفيض عدد العاملين في القطاع الحكومي لتخفيض فاتورة الأجور كنسبة من الموازنة لاتفقنا معه، ولكن توصيته بخفض الأجور في القطاع الحكومي غريبة، والأولى أن يوصي الصندوق برفع معدلات الأجور المنخفضة في المتوسط في القطاع الخاص، وليس تقليل الرواتب الحكومية، وهذه التوصية على كل حال تناقض أول أهداف التنمية الاقتصادية وهو رفع الدخل الحقيقي للمواطن مع الزمن.
ختاما: توصيات الصندوق غير ملزمة لنا، فنحن لسنا مقترضين من الصندوق ولم نطلب تدخله يوما بفضل الله، وهذا يعطينا الحرية لرفض كل توصيات الصندوق أو بعضها بل مخالفتها 180 درجة، فنحن أعرف وأقدر من مستشاري الصندوق على معرفة وتطبيق ما يحتاج إليه اقتصادنا، وسلامتكم.

إنشرها