الاقتصاد الرقمي التطور الجديد في الشرق الأوسط «1من 2»

لا يمكن التأكيد على الدعوة إلى إحداث تحول في دور الدولة أكثر مما تضمنه التقرير الأخير للمرصد الاقتصادي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ولكي ينجح "النهج الطموح" للاقتصاد الرقمي الجديد في إتاحة فرص نمو متكافئة وتوفير ملايين الوظائف، يتعين على السلطات العامة في المنطقة أن تصبح هيئات تنظيمية فاعلة. فالتحول إلى الاقتصاد الرقمي ينطوي على طائفة من التحديات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الفريدة التي تتطلب وضع "قواعد واضحة للعمل".
وبقصر النقاش على البعد الاقتصادي، فإن من الملامح البارزة للاقتصاد الرقمي ظهور ما يسمى البرامج متعددة الجوانب. فبدلا من بيع خدماتها الخاصة، فإن وظيفة هذه البرامج هي السماح لشتى أنماط المشاركين "اثنين على الأقل" بالتجمع معا والدخول في تبادلات تزيد من القيمة، وهو ما لم يكن ليحدث خارج إطار هذا البرنامج، لأنه سيكون من المستحيل على كل طرف أن يجمع ويعالج كل المعلومات الضرورية بمفرده. وتمثل مجموعات الوكلاء التي يربط بينها البرنامج مختلف الجوانب: من الأمثلة البارزة الأسواق الرقمية التي تربط بين تجار التجزئة، والمستهلكون وأيضا المعلنون، مثل "أمازون" أو سوق دوت كوم souq.com، والتطبيقات التي تربط المستخدمين بالموردين مباشرة، مثل AirBnB أو "كريم" أو مواقع التواصل الاجتماعي التي تتيح للأفراد التفاعل مع بعضهم بعضا، والوصول إلى المحتوى، والتواصل مع المعلنين.
يعتمد نموذج العمل هذا على القدرة على تحليل مزيج من مجموعات البيانات الكبيرة للغاية المتعلقة بسلوكيات الفرد والمسماة "البيانات الضخمة" التي باتت ممكنة بفضل النمو المطرد للقدرة الحاسوبية، والتحسينات المستمرة في اللوغاريتمات، وتطور الذكاء الاصطناعي. وتتطلب هذه التكنولوجيات استثمارات كبيرة للغاية ومستقلة عن جملة المعاملات التي تجرى عبر البرنامج، ومن ثم فإن تكلفة الوحدة في المعاملة الواحدة تنخفض بزيادة حجم المعاملة، ما يفضي إلى ما يسميه مختصو الاقتصاد "وفورات الحجم".
من وجهة نظر تحليلية، تستعرض البرامج متعددة الأوجه عديدا من الملامح الواضحة، أولها أن جدوى كل طرف تزداد بزيادة عدد الوكلاء الذين ينتمون إلى الجانب الآخر، ومن ثم يوجد ما يسميه مختصو الاقتصاد "عناصر خارجية غير مباشرة للشبكة". وعلى سبيل المثال، يثني المستهلكون على موقع للتجارة الإلكترونية يتيح لهم الوصول إلى عدد كبير من المتاجر التي يستطيعون الاختيار من بينها، وفي الوقت نفسه، فإن أي بائع يرغب في المشاركة في مثل هذه البرامج إذا كانت تزيد من الطلب على السلعة التي يبيعها. وعلاوة على ذلك، فنظرا إلى أن تقييم المعاملة يختلف فيما بين الأطراف المشاركة، فمن الأفضل تقديم الدعم للفئات ذات الرغبة الأقل في الدفع، وفرض الرسوم على الأطراف الأكثر استفادة من البرنامج. وفي حال التجارة الإلكترونية، لا يدفع المستهلكون أي شيء لخدمات البرنامج الذي يحصل على مكافأته من خلال عمولات تفرض على البائع وأحيانا على المعلن، مثل "سوق دوت كوم".
يقود وجود وفورات الحجم أو الإنتاج الكبير وتأثير الشبكات على ما يبدو إلى صناعات مركزة للغاية. وفي كثير من الحالات، فإن "الفائز يجني كل شيء"، ولا يحد المنافسون الفاعلون من سلوكياته. ومن ثم، ينبغي في مثل هذه الحالات تمحيص ممارسات الأعمال بكثافة من قبل سلطات تنظيم المنافسة في بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، حتى لا يقع مختلف المشاركين في البرنامج ضحية الاستغلال، ولا تؤدي الاستراتيجيات غير القانونية إلى تثبيط المشاركين الحاليين، "مثل ربط بيع سلعة بأخرى، والاحتكار الحصري لبيع وتوزيع سلعة ما، والخصومات الممنوحة للتشجيع على الاستمرار في شراء منتج ما، والتهام الشركات الكبرى للصغرى" التي ترمي إلى منعهم من الوصول إلى الحجم الضروري للنجاح. إضافة إلى ذلك، يجب على سلطات تنظيم المنافسة أيضا التيقن من احتفاظ الشركات الناشئة بما يحفزها على المنافسة وليس ما يحفزها على أن تباع للشركات الموجودة "أو ما يسمى "الاستحواذ من أجل اقتحام السوق". في النهاية، لا بد أن تطور هذه السلطات خبراتها التقنية كي تتمكن من رصد الكيانات الاحتكارية التي يمكن أن تستمر باستخدام لوغاريتمات دون أي تدخل بشري.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي