Author

إيجابيات في مفاوضات واشنطن وبكين

|
كاتب اقتصادي [email protected]


"المحادثات التجارية مع الصين قد تستمر أسابيع أو حتى أشهرا"
لاري كادلو، المستشار الاقتصادي للبيت الأبيض

بصرف النظر عن آراء بعض المنتقدين للمعارك التجارية بين الولايات المتحدة والصين، ومنهم أمريكيون متخصصون، فالمحادثات التجارية بين واشنطن وبكين تحقق تقدما ما. صحيح أنه ليس تقدما كاسحا، ولكن المؤشرات كلها تدل على أن القواسم المشتركة بين الطرفين بدأت تظهر في الأفق، وأن هناك عزما من جانبهما على إنهاء المعارك التجارية بينهما، وأن المواعيد النهائية للمحادثات تركت مفتوحة. وهذه نقطة مهمة، لأنها تضيف مزيدا من الأجواء الإيجابية على هذه المحادثات المهمة. وهي كذلك "أي مهمة"، لأنها تؤثر في الواقع على الساحة العالمية ككل، كما أنها تعطي آمالا بإمكانية أن تحل الولايات المتحدة مشكلاتها التجارية عن طريق الحوار، وليس عبر فرض رسوم جمركية إضافية، تقابلها رسوم مماثلة انتقامية من الطرف الآخر.
الحكومة الصينية أعلنت رسميا، أن توافقا جديدا قد تحقق فيما يتعلق بالاتفاق التجاري مع واشنطن، وهذا الاتفاق سينهي كل المشكلات والخلافات وبالطبع المعارك التجارية الراهنة. والاتفاق المشار إليه سينهي بالتأكيد حربا تجارية بين أكبر اقتصادين في العالم، وينزع التوتر الاقتصادي من الساحة العالمية، خصوصا بعد تأكيدات كل المؤسسات والكيانات الاقتصادية الدولية، على أن الاقتصاد العالمي لن يحقق نموا كما كان مأمولا في العامين المقبلين. ما يعني أنه لا بد من أن تكون هناك إجراءات تحفيزية لهذا الاقتصاد، ولكن ليس في ظل معارك تجارية شملت حتى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. فرؤية الإدارة الأمريكية الحالية، أن بلادها "مظلومة" تجاريا من دول بعينها، وفي مقدمتها الصين وأوروبا. دون أن ننسى، أن واشنطن تفرغت فعليا لهذا الأمر، بعدما نجحت في حل خلافاتها التجارية مع كل من كندا والمكسيك.
ووفق ما يأتي من المحادثات الأمريكية-الصينية، فإن بكين قبلت أحيانا بعضا من اللوم الأمريكي بأنها تقوم بممارسات تجارية غير عادلة لسنوات، عبر دعم شركاتها بقوة، وسرقة التكنولوجيا من الشركات الأمريكية. وهذه النقطة في الواقع تتفق معها دول الاتحاد الأوروبي، التي تريد هي الأخرى سلوكيات تجارية متوازنة من الصين. غير أن العلاقات بين هذه الأخيرة ودول الاتحاد لم تصل إلى المستوى الخطير الذي وصلت إليه مع الولايات المتحدة. العالم كله يترقب نتائج المحادثات التجارية بين هذين البلدين الكبيرين، في الوقت الذي ترى فيه جهات أمريكية مختصة أن الوضع التجاري الذي نشأ في أعقاب فرض الرسوم الجمركية الأمريكية على الواردات الصينية، يضر بالاقتصاد الأمريكي نفسه.
وفي دراسة لافتة أصدرتها أربع جامعات أمريكية كبيرة "كاليفورنيا، وكولومبيا، وييل، وجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس"، أكد واضعوها أن المعارك التجارية كلفت الاقتصاد الأمريكي 7.8 مليار دولار، في فاقد للناتج المحلي الإجمالي في عام 2018. ورغم أن هذا الرقم لا يعد كبيرا بالنسبة لحجم الاقتصاد الأمريكي، إلا أنه يشكل إنذارا خطيرا فيما لو استمرت هذه المعارك لمدة أطول. ناهيك عن آثار التوتر التجاري الراهن بين واشنطن وبقية عواصم الاتحاد الأوروبي. المهم الآن التركيز على المحادثات الأمريكية-الصينية، باعتبارها مؤشرا عالميا مثلما هي مؤشر ثنائي بين بلدين محوريين. غير أن التفاؤل لا يزال منقوصا بعض الشيء، ولا سيما في استبعاد كلا الطرفين التوصل إلى اتفاق وشيك. لكن تمديد المحادثات بحد ذاته يعد انتصارا لكل الأطراف المعنية.
أثبتت الأشهر الماضية أن فرض الرسوم الجمركية الإضافية على هذا الطرف، وفرض رسوم انتقامية في المقابل، لا يحققان الأهداف، بصرف النظر عن عدالة سلوكيات هذا الفريق أو ذاك. ولا أحد يرغب في الواقع بتفاقم المعارك التجارية، لأسباب عديدة، منها أن العالم لا يتحمل مثل هذه المعارك سواء كانت ثنائية أو جماعية. وأن مسؤولية البلدان المتقدمة أن تمهد المسارب المؤدية إلى نمو صحي للاقتصاد العالمي، مع ضرورة الإشارة إلى أن المعارك المشار إليها تؤثر سلبا على كثير من البلدان النامية، وهذا ما تحذر منه الوكالات التابعة للأمم المتحدة في كل المناسبات. وعلى هذا الأساس تأتي تأكيدات البيت الأبيض بأن "المفاوضات لا تعتمد على الوقت" في محلها، بل تعتمد وفق واشنطن على "السياسة والتطبيق".
هذا بالضبط ما يفيد الاقتصاد العالمي الآن، أن تبقى الأبواب مفتوحة للحوار والمفاوضات، بعيدا عن التشنج والإجراءات الانتقامية الفادحة. لكن ظهر خوف ما في الأيام الأخيرة، عندما اقترح الرئيس الأمريكي دونالد ترمب الإبقاء على بعض الرسوم الجمركية، حتى بعد التوصل إلى اتفاق، وذلك بهدف ضمان التزام الصين. وهذه النقطة على وجه الخصوص تؤرق حتى بعض المسؤولين الأمريكيين، الذين يعتقدون بأن آليات ضمان الاتفاق كثيرة يمكن الاعتماد عليها، ولا داعي لإبقاء بعض الرسوم المفروضة حاليا على الصين. ومهما يكن من أمر، فإن الأجواء بين القطبين العالميين جيدة، ولا بد أن تؤدي إلى شيء إيجابي ما مطلوب من العالم أجمع.

إنشرها