تصريحات المسؤولين .. بين الواقع والخيال

ليس أمرا بالغ الصعوبة أن يهبط إلى أرض الواقع عديد من التصريحات والوعود الصادرة عن بعض المسؤولين التنفيذيين الحكوميين، خاصة إذا كان سيترتب على تلك التصريحات رسم صورة خيالية بعيدة جدا عن الواقع الحقيقي، أو إطلاق وعود غير دقيقة ومبالغ فيها إلى حد بعيد جدا، أن يتم ضخ المليارات من الريالات وتسخير كثير من الموارد لأجلها، سواء من الميزانية العامة للدولة، أو بضخ استثمارات كبيرة من القطاع الخاص، ثم تأتي النتائج لاحقا على العكس تماما مما سبق التصريح أو الوعد به، وحينئذ لا يمكن تقدير حجم الخسائر المادية الفادحة التي ترتبت عليها تلك التصريحات أو الوعود، ولا يمكن أيضا حصر ورصد خسائر الفرص المهدرة تنمويا واقتصاديا واجتماعيا، المحتمل مكابدتها نتيجة لمثل تلك التصريحات المفرطة في أحلام اليقظة.
الحديث في هذا الخصوص، يتركز على ما قد يتفوه به مسؤول تنفيذي حكومي، من تصريحات تحاول رسم صورة ذهنية مخالفة إلى حد بعيد لواقع القطاع الذي يشرف عليه جهازه الحكومي، أو إطلاق وعود ومنجزات مرتقبة، هي أقرب إلى المستحيل بعينه، أكثر من قربها إلى الممكن تحقيقه وإنجازه.
لقد مررنا طوال عقود زمنية ماضية، بتجارب كثيرة وعديدة في هذا المضمار "المرهق"، تعددت وتنوعت بين وعود بتوفير مئات الآلاف من الفرص الوظيفية للمواطنين والمواطنات، ووصلت لدى بعض الوزراء والمسؤولين في فترات سابقة طواها الزمن طيا إلى خانة الملايين من الفرص الوظيفية، ووعود أخرى بمكاسب هائلة من عشرات أو مئات المليارات التي سيجنيها الاقتصاد الوطني إذا تحققت تلك الوعود الوردية، وقس على ذلك كثيرا وكثيرا جدا من تصريحات ووعود لا نهاية لها -على سبيل المثال لا الحصر- كالوعود بالزيادة القياسية في النمو الاقتصادي، أو بالزيادة المتسارعة والكبيرة في تنوع قاعدة الإنتاج المحلية، أو بالقضاء التام على أي من التحديات التنموية المعتادة خلال فترة وجيزة، أو القفز بالاقتصاد الوطني أو أحد قطاعاته الرئيسة إلى المقدمة الدولية، مقارنة ببقية اقتصادات العالم. تصريحات ووعود تلقفتها أبصارنا وأسماعنا وعقولنا من وزراء ومسؤولين حكوميين، إما عبر لقاءات صحافية أو متلفزة، أو عبر خطابات أو مشاركات تم تقديمها من خلال عديد من المؤتمرات والمنتديات المحلية أو الدولية.
الحقيقة المرة هنا؛ أنه لو تحقق على أقل تقدير 10 في المائة من تلك التصريحات والوعود، لما وجدنا أنفسنا بهذه الحاجة الماسة جدا إلى تدشين أكبر برامج للإصلاح والتطوير الاقتصادي الشامل في تاريخ بلادنا، ممثلا في المشروع الوطني العملاق "رؤية المملكة 2030"، بكل ما تضمنته وستتضمنه مستقبلا من برامج تنفيذية عديدة، شملت اهتماماتها بقطاعات الاقتصاد الوطني كافة دون استثناء، ولما واجه اقتصادنا ومجتمعنا "عشر" ما هو ماثل أمامهما، هذا المزيج المعقد التركيب من مختلف التحديات التنموية الجسيمة، بل لقد تسببت -بكل أسف- بعض تلك التصريحات والوعود الصادرة في عقود زمنية مضت، إما في نشوء وإما في اتساع وتعاظم بعض ما يواجهه اقتصادنا اليوم من تحديات تنموية كأداء!
بناء عليه؛ يمكن القول إنه في ظل المرحلة الإصلاحية والتطويرية الراهنة، التي تشهد العمل المتكامل والمشترك لأجل تنفيذ جميع برامج "رؤية المملكة 2030"، مستهدفة بطموحها المشروع تجاوز ومعالجة التحديات التنموية الراهنة كافة، ووصولا إلى تحقيق الأهداف الطموحة المنصوص عليها بالأرقام سلفا على صفحات وثائق تلك البرامج التنفيذية. أؤكد القول مرة أخرى، إن إطلاق أي تصريح أو وعد من أي مسؤول حكومي خارج ما تضمنته وثائق تلك البرامج، يعد اعترافا صريحا من قبل ذلك المسؤول بعدم التزامه بها، عدا أنه سيتسبب بهذا التصرف غير المدروس والمحسوب العواقب منه، في تعطيل أو تأخير تحقق الأهداف المنصوص عليها في البرامج التنفيذية لـ"رؤية المملكة 2030".
كما أن صدور مثل تلك التصريحات والوعود المفرطة في سماء الخيال، يشير بصورة جلية إلى أن "ذهنية" من تصدر عنه، لا تزال متأخرة جدا عما وصلت إليه آلية العمل الحكومي خلال الفترة الراهنة، التي من أهم سماتها التكامل المشترك بين أعمال ومسؤوليات وجهود مختلف الأجهزة الحكومية، وأن لا مجال لأي جهاز من تلك الأجهزة أن يتحرك منفردا دون التنسيق المسبق مع بقية الأجهزة. كما تؤكد الحالة هنا أن "ذهنية" ذلك المسؤول لا تزال غارقة في "نرجسية" المنصب الحكومي، وبعيدة جدا عن تركيز العمل المدرك تماما لمسؤولية التكليف بذلك المنصب. الدليل الحقيقي على ذلك؛ اعتقاده الخاطئ بأن تصريحات أو وعود خارج حدود الواقع والممكن، من شأنها أن تحسن مستوى أدائه أمام المستويات الأعلى منه في صناعة واتخاذ القرار، وأنها ستجتذب إليه -وهما منه- رضا وثناء عموم أفراد المجتمع، غافلا أو متناسيا أن أيا من ذلك لم يعد موجودا على الإطلاق خلال المرحلة الراهنة، التي أصبح فيها عمل المسؤول الحكومي خاضعا للرقابة والمتابعة والمحاسبة أيضا، وأن وعي أفراد المجتمع قد تجاوز كثيرا حدود تلك "الذهنية النرجسية".
قد يصعب إقناع أصحاب تلك "الذهنية النرجسية"، بمجرد مقال رأي يخالف ما تحمله من أخطاء ومبالغات، وليس هذا بالأمر المهم، وذاك أولا وأخيرا شأن أصحاب تلك "الذهنية"، إن أرادوا القبول أو الرفض. إنما الأهم هنا؛ أن تتولى الأجهزة الرقابية والمتابعة وقياس مؤشرات الأداء الحكومي، المتابعة اللصيقة لأي تصريحات أو وعود تصدر عن أي من المسؤولين الحكوميين التنفيذيين، فتقارنها أولا مع ما تضمنته البرامج التنفيذية لـ"الرؤية"، وثانيا مع الإمكانات والموارد المتوافرة للاقتصاد، وهل بالفعل تتمتع تلك التصريحات برصيد واقعي وحقيقي؟ أم أنها أبعد عن ذلك؟ وهل يمكن فعلا الترجمة الفعلية وتحقيق أي من تلك الوعود التي تم إطلاقها؟ أم أن ذلك غير ممكن جزئيا أو بالكامل؟ وأن يتم بشكل كامل ودقيق التدقيق والمراجعة في كل ما تضمنته تلك التصريحات والوعود، والرفع من ثم بنتائجها الحقيقية والدقيقة إلى متخذ القرار الأعلى، الذي سيمثل بدوره حماية أكبر لمقدرات البلاد والعباد، ويكفل أيضا التزاما أكبر من مختلف المسؤولين الحكوميين التنفيذيين بالمهام والمسؤوليات الموكلة إليهم، وإيقافا فاعلا لأي تجاوزات محتملة قد تحملها أي تصريحات لا تمتلك أي رصيد على أرض الواقع، أو وعود مبالغ فيها لا يمكن تحقيقها وفقا للموارد والإمكانات المتوافرة. والله ولي التوفيق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي