تملك المسكن .. بزيادة القروض أم بخفض الأسعار؟

نقف في مواجهة حلول تسهيل تملك المساكن للمواطنين أمام خيارين؛ الخيار الأول "الذي يفضله ملاك العقارات": أن يتم زيادة التمويل العقاري بشكل مطرد، عاما بعد عام، والذي يعني ضمنيا السماح باستمرار ارتفاع أسعار الأراضي والعقارات دون توقف، ودون قيد أو شرط. بمعنى أنه كلما ارتفعت الأسعار ارتفعت القروض العقارية المقدمة للأفراد، والدخول من ثم في حلقة مفرغة صاعدة تطارد فيها القروض العقارية على الأفراد، الطائر الصاعد دون توقف، المتمثل في الأسعار التي يقبل بها ملاك الأراضي والعقارات، وبالطبع ستأتي اللحظة الحتمية التي تتوقف عندها تلك الحلقة عن الصعود، وتصاب الأطراف جميعا بالشلل الكامل، لتبدأ من ثم مشاهد مروعة تشبه في أدنى درجاتها، الفصول الدراماتيكية للأزمة المالية العالمية 2008.
وفقا لهذا الخيار؛ سيكون من نتائجه أن ترتفع تدريجيا المخاطر على المؤسسات الممولة بالدرجة الأولى، وترتفع أيضا على الأفراد المقترضين، وستزداد تلك المخاطر مع ارتفاع نسب استقطاع الأقساط الشهرية لسداد تلك القروض، كما ستزداد المخاطر وفقا لذلك على الاقتصاد الوطني والمجتمع على حد سواء، وتبدأ إصابة الاقتصاد الوطني منذ اللحظة الأولى لاتساع دائرة تعثر الأفراد عن سداد القروض العقارية على كواهلهم، ودخول القطاع التمويلي في هاوية انكشافه على تلك التعثرات.
مع التأكيد على أن تلك المعضلة في نهاية طريق هذا الخيار، ستسبقها إشكالات اقتصادية ومالية لعدة سنوات، فمع زيادة استقطاع أقساط سداد القروض العقارية على كواهل أفراد المجتمع "مستويات أعلى من 60 في المائة من صافي الأجور الشهرية"، سيجد الأفراد أنفسهم مضطرين إلى تقليص إنفاقهم الاستهلاكي، الذي سيؤثر بدوره في الاستقرار الاقتصادي، من خلال تأثيره السلبي بانخفاض استهلاك منتجات وخدمات منشآت القطاع الخاص، التي ستضطر بدورها نتيجة انخفاض إيراداتها إلى تقليص أعداد العمالة لديها، عدا أنها ستعاني بكل تأكيد ارتفاع تكلفة العقارات وإيجاراتها من جانب آخر، وقد تجد نفسها في نهاية الطريق أمام إعلان إفلاسها وتوقف نشاطها، والاستغناء من ثم عن كامل عمالتها، ما سيسهم بدوره في ارتفاع معدل البطالة بين المواطنين، وستكون النتائج غير جيدة في حال كان بين أولئك العاطلين من هو ممتلك لمسكنه بالاعتماد على القروض العقارية، ليتحول من منتظم في السداد إلى متعثر، وتبدأ من ثم فصول دراماتيكية.
وحين الحديث عن أسباب تضخم أسعار الأراضي والعقارات، التي سبقت في حدوثها كل ما تقدم ذكره حول الحلقة المفرغة للتضخم السعري، التي وقف خلفها ترسب تشوهات هيكلية في سوق العقار المحلية، بدأت إجراءات مواجهتها مع منتصف 2016 ولا تزال جارية بخطى أقل سرعة مما هو مأمول! يمكن القول حينئذ، إن القبول بمواصلة ارتفاع تلك الأسعار المتضخمة، والسماح بذلك عبر فتح خزائن التمويل العقاري على مصارعها دون قيد أو شرط، من شأنه أن يصعب الأمور بصورة أسرع مما نتصور، والدفع من ثم بالوصول إلى نهاية طريق الخيار الأول خلال فترة زمنية أقصر بكثير.
الخيار الثاني "الذي يفضله الباحثون عن تملك مساكنهم": أن يتم اتخاذ التدابير والإجراءات اللازمة، التي تلجم الصعود المطرد الخارج عن السيطرة لأسعار الأراضي والعقارات، لتكون تحركاتها ضمن مؤشرات أداء الاقتصاد الوطني، ومستويات نمو السيولة والأجور، سواء بالصعود أو بالانخفاض، بما يقلص أي مخاطر محتملة، وتأتي لاحقا أحجام القروض العقارية ملائمة لتلك المحددات.
سيكون من أبرز سمات هذا الخيار، أن تظل نسب استقطاع السداد على الأفراد ضمن الحدود المعقولة والمقبولة، ويحافظ الاقتصاد على استقراره وفرص نموه، والنأي بالقطاع التمويلي عن المخاطر المحتملة لتعثر المقترضين، والمحافظة على استقرار منشآت القطاع الخاص، وأن تتنامى نشاطاتها وقدرتها على زيادة توظيف العمالة الوطنية، وتعزيز إنتاجية الاقتصاد الوطني.
لا يعد تنامي القروض العقارية أمرا جيدا في ظل تضخم أسعار الأراضي والعقارات، بقدر ما أنه بكل تأكيد يعد زيادة في مخاطر انكشاف القطاع التمويلي على وجه التحديد، والاقتصاد الوطني والمجتمع عموما، على حجم أكبر من المخاطر تتجاوز حدود قدرة السيطرة على آثارها. على العكس بالطبع في حال كانت الأسعار في مستويات بعيدة عن التضخم، والتكلفة الباهظة على كواهل الجميع، ستكون المخاطر المحتملة ضمن حدود السيطرة، وضمن قدرة أغلب الأطراف من مقرضين ومقترضين.
ختاما؛ لا بد أن نتوخى جميعا أعلى درجات الحيطة والحذر لما هو قائم الآن ومستقبلا على هذا الطريق، وأن تتكاتف الجهود المبذولة خلال الفترة الراهنة والمستقبلية، للتحول نحو الخيار الثاني والابتعاد تماما عن الخيار الأول ومخاطره. والتأكيد هنا على حدوث واستمرار انخفاض الأسعار المتضخمة للأراضي والعقارات، حتى تستقر عند مستوياتها العادلة سعريا، وإن عده البعض من ملاك العقارات خسارة، إلا أنه الأمر الذي لن يستمر إلى ما لا نهاية، لتعود من ثم إلى النمو مجددا ضمن مؤشرات أداء الاقتصاد الوطني، مؤكدا أن هذا الأمر يعد أقل خسارة بما لا مجال للمقارنة، فيما لو تعرض الاقتصاد الوطني بأكمله لمخاطر الخيار الأول، لا قدر الله، الذي ستكون خسائر القطاع العقاري برمته أكبر بكثير من الخسائر المحدودة جدا ضمن الخيار الثاني!
إنه ونتائج كل خيار من الخيارين أعلاه، معلومة تمام العلم للأطراف جميعا، حتى قبل تدوين هذا المقال، يؤمل أن يعلو صوت العقلانية والموضوعية، وقبل ذلك أن يعلو تفضيل تحقق المصلحة العامة على تحقق المصلحة الخاصة، والنظر إلى العوائد طويلة الأجل للاقتصاد الوطني والمجتمع، وتقديمها بكل وطنية ومسؤولية على العوائد المحدودة قصيرة الأجل، والنأي التام والشامل بمقدرات البلاد والعباد عن التورط في مخاطر لا قبل لنا بها مستقبلا. والله ولي التوفيق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي