Author

جدة .. قبل 10 آلاف سنة

|


لا شك أن الاحتفالات التي أقامتها الهيئة العامة للترفيه في محافظة العلا في كانون الثاني (يناير) - شباط (فبراير) 2019 أكدت أن الحضارات التي نشأت في منطقة الجزيرة العربية ما زالت بكرا وتحتاج إلى مزيد من البحث والتنقيب. ومن ناحيتها، فقد حققت الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني كثيرا من الإنجازات على صعيد اكتشاف نماذج من تراث الحضارات التي نشأت في الجزيرة العربية منذ آلاف السنين، لكن لا تزال أمامنا إشكالية البحث في تاريخ نشأة جدة التراثية، وهو تاريخ مختلف عليه!
إن الله - سبحانه وتعالى - أسكن آدم - عليه السلام - في الجنة، ثم خلق من ضلعه حواء، وجاء في القرآن الكريم: "وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين".
ولكن الشيطان وسوس إليه، قائلا: "يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملْك لا يبلى، فأكلا من الشجرة فبدت لهما سوآتهما...".
وعن ابن عباس قال: "أهبط آدم بالهند، وحواء بجدة، فجاء في طلبها حتى اجتمعا فازدلفت إليه حواء، فلذلك سميت المزدلفة، وتعارفا بعرفات، فلذلك سميت عرفات، واجتمعا بجمع، فلذلك سميت جمعا". كذلك نلاحظ أن مدينة جدة وردت في كتب التراث عند الطبري وابن الأثير وابن كثير والمسعودي، وذكروا جميعهم أن حواء أهبطت في جدة ولحق بها آدم - عليهما السلام.
وظل تاريخ جدة مكتوبا لمئات السنين في كتب التراث دون أن تعيد كتابته الأجيال المتعاقبة، لكن في الستينيات الميلادية نهض عبد القدوس الأنصاري بالبحث في تاريخ جدة، ورجح الأنصاري أن تاريخها يبدأ منذ ثلاثة آلاف سنة، وقال إن البداية تتمثل في "قضاعة" الجد الـ19 لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي كان يرعى ماشيته في بر جدة، وانتهى إلى تسمية حفيد من أحفاده باسم "جدة"، وكلام الأنصاري يتعارض مع ما جاء في القرآن الكريم أن حواء أهبطت في جدة منذ البواكير الأولى للوجود الإنساني.
ولكن من الثابت أن الجزيرة العربية، وفي قلبها منطقة مكة المكرمة ومنها جدة، كانت في تاريخها البعيد مروجا وأنهارا ونضارة وحضارة.
روى الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: "لن تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجا وأنهارا"، بمعنى أن الجزيرة العربية كانت مهدا لحضارات إنسانية عريقة عبر تاريخها البعيد.
ومن المؤسف أن مؤرخي جدة المعاصرين ساروا على نهج الأنصاري دون أن يخدموا "جَدتْهُم" وينكبوا على دراسة تاريخ جدة عبر العصور والدهور والأزمان.
لقد اعتمدت الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني وضع منهج علمي يرفع شعار "لسنا طارئين على التاريخ، إنما مشاركون في صناعته"، وأعادت الهيئة اكتشاف حضارات الجزيرة العربية، وكانت جدة - ضمنا - من المدن السعودية المشعة والمضيئة إبان تاريخ الحضارات في شبه الجزيرة العربية.
إن الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني تراهن على أن المملكة بلد الحضارات القديمة، ولذلك نظمت الهيئة معرضا عالميا متنقلا جاب معظم عواصم العالم المتحضر، ويحمل المعرض اسم "روائع آثار المملكة عبر العصور".
وقد قدم المعرض للعالم نحو 400 قطعة أثرية نادرة تعبر عن تاريخ الحضارات، وبالتالي عن عمق المملكة الحضاري وإرثها التاريخي والثقافي عبر العصور والدهور. كذلك نشرت الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني في نشرتها عام 2016 على لسان الدكتور رومولو لوريتو رئيس فريق البحث عن الآثار الإيطالي أن الجزيرة العربية كانت منطقة خضراء غنية بالمياه في العصر الحجري الحديث "9000 - 4500 قبل الميلاد"، لكنها شهدت بنهاية هذا العصر وبداية العصر البرونزي تحولات مناخية ساد فيها التصحر والجفاف.
ومن ناحيته، فإن الباحث حسن بن محمد فقيه قال في بحث نشرت نتائجه في مجلة "جدة" التي تصدرها أمانة جدة، في العددين "62" و"63" في 2017: "أود أن أقدم عددا من الدلائل المؤكدة على أن الاستيطان في جدة يمتد إلى العصر الحجري الحديث، أي قبل عشرة آلاف سنة".
بمعنى، أن عمر جدة لا يقل عن عشرة آلاف سنة وليس ثلاثة آلاف سنة، واستند في بحثه إلى الرسوم الصخرية الحيوانية التي تم العثور عليها في منطقة أبحر بالقرب من خليج سلمان، وهذه الرسومات نقلت إلى متحف قصر خزام في جدة.
وبمناسبة احتفالات محافظة العلا هذه الأيام، فقد استعدنا الوقوف أمام آثار مدائن صالح الماثلة للناس أجمعين، ولم نستطع أن نمنع أنفسنا من الإعجاب بفنون العمارة المتطورة وكانت سائدة في تلك الحضارات التي كانت غائرة في جوف التاريخ البعيد. وقد عثر المنقبون عن الآثار على بعض مكونات تلك الحضارات في شرق جدة، وتحديدا في المنطقة المعروفة اليوم باسم "قويزة"، بمعنى أن حضارة عاد وثمود تمتد إلى جدة التاريخية.
وفي ضوء نتائج الاكتشافات الحديثة عن آثار الحضارات الديدانية واللحيانية والمعينية في الجزيرة العربية، وجه الأمير محمد بن سلمان ولي العهد، مراكز الأبحاث والدراسات بضرورة إعادة النظر في مناهج التاريخ التي طالها بعض المغالطات من قبل بعض التيارات الدينية التي جعلت من آثار تلك الحضارات العريقة مدافن وقبورا للأثرياء. وأكد ولي العهد أن "رؤية السعودية 2030" تراهن على أن آثار الحضارات القديمة التي نشأت فوق أراضي المملكة هي جزء مهم في منظومة تنمية وتنويع موارد السياحة الوطنية.
وما أرجوه من المؤرخين "الجدادوة" ألا يخيبوا ظن ذلك الحشد من المؤرخين، ويبادروا إلى إعادة دراسة وكتابة تاريخ جدة التاريخية وفقا لقواعد البحث العلمي المعتمدة من قبل الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني.

إنشرها