اقتصادات الأسواق ومزيد من التوظيف «1 من 2»

إن الطبيعة المتغيرة للعمل في سبيلها لإحداث انقلاب في أوضاع الوظائف التقليدية ومزاياها. ففي الاقتصادات المتقدمة، أصبحت محركات الاضطراب في العالم – وهي التقدم التكنولوجي، والتكامل الاقتصادي، والتحولات الديمغرافية، والتغيرات الاجتماعية والمناخية – تفرض تحديات أمام فعالية سياسات الضمان الاجتماعي لعصر الصناعة المرتبطة بعقود العمل المستقرة. ورغم ما حققته هذه السياسات من تقدم هائل، فقد أضرت كذلك بصورة متزايدة بقرارات سوق العمل وبالوظائف في القطاعات الرسمية.
وهذه النظم وُضعت في البلدان الغنية في وقت كان يسوده في ظل ضمان اجتماعي "الوظائف مدى الحياة" مفهوم كان يقوم على المساهمات الإلزامية والضرائب على أجور الموظفين في القطاعات الرسمية، وأصبح هذا النظام التقليدي من التأمين القائم على الأجور يواجه تحديات متزايدة من ترتيبات العمل الخارجة عن نطاق عقود التوظيف المعتادة.
وفي الاقتصادات النامية، كان عالم العمل ولا يزال في الغالب يتسم بالتنوع وعدم الاستقرار، وبالتالي فإن سمات الانتظام والاستقرار في العمل التي تقوم عليها نظم الضمان الاجتماعي التقليدية قد لا تنطبق عليه. وفي واقع الأمر، ظلت المشاركة في نظام الضمان الاجتماعي وتغطيته محدودة، وفي بنجلادش والهند وإندونيسيا ونيجيريا وباكستان، التي تضم معا نحو ثلث سكان العالم، ظلت نسبة الأشخاص المشمولين بهذا النظام في حدود الرقم الواحد، ولم يكد هذا الأمر يتغير على مدى عقود طويلة .

تأثير التكنولوجيا في العمل
رغم أن القياس الكمي لتأثير التقدم التكنولوجي في فقدان الوظائف لا يزال يشكل تحديا أمام مختصي الاقتصاد، فالتقديرات الموجودة كثيرة، ومربط الفرس هو أن التكنولوجيا تغير الطريقة التي يعمل بها الناس والشروط التي تحكم عملهم. وبدلا من العقود القياسية طويلة المدى في الماضي، تؤدي التكنولوجيا الرقمية حاليا إلى ظهور مزيد من الوظائف قصيرة المدى، وذلك في الغالب عن طريق المنصات الإلكترونية على شبكة الإنترنت.
وهذه الوسائل المسماة بالعربات gigs تيسر الحصول على بعض أنواع الوظائف وتزيد من مرونتها، أما انتشار وسائل الاستفادة بشكل أكبر من البنية التحتية الرقمية — من خلال أجهزة الكمبيوتر المحمولة، والأجهزة اللوحية، والهواتف الذكية — فيمهد السبيل لنمو تقديم الخدمات عند الطلب.
ومن الصعب أن نقدر حجم اقتصاد العربة gig economy فعندما تتوافر البيانات، نجد أن الأرقام لا تزال صغيرة. وعلى مستوى العالم، تشير التقديرات إلى أن عدد أولئك الذين يعملون لحسابهم الخاص يبلغ نحو 84 مليون نسمة، أو أقل من 3 في المائة من القوى العاملة في العالم البالغ عددها 3.5 مليار نسمة.
ولا يزال الطابع غير الرسمي قائما على نطاق واسع في اقتصادات الأسواق الصاعدة — فيصل إلى 90 في المائة في بعض البلدان منخفضة الدخل ومتوسطته — على الرغم من التقدم التكنولوجي. ونظرا إلى عدم وضوح الفرق بين العمل الرسمي وغير الرسمي في ظل التطورات التكنولوجية في الفترة الأخيرة، نجد أن طبيعة العمل في الاقتصادات المتقدمة واقتصادات الأسواق الصاعدة تتقارب من بعضها بعضا. فبينما تشهد أسواق العمل في الاقتصادات المتقدمة مزيدا من عدم الاستقرار، تظل ممارسة الأنشطة غير الرسمية مستمرة في الأسواق الصاعدة. ومعظم التحديات التي تواجه العاملين بعقود قصيرة الأجل أو لفترة مؤقتة، حتى في الاقتصادات المتقدمة، هي نفسها التي تواجه العاملين في القطاع غير الرسمي. وقد أصبح كل من العمل الحر، والعمل بأجر في القطاع غير الرسمي بدون عقود مكتوبة وبدون أي نوع من أنواع الحماية، والعمل في وظائف منخفضة الإنتاجية بصورة أعم هو المعيار في معظم البلدان النامية في العالم. وليس ثمة وضوح في القواعد التنظيمية التي تحكم تشغيل هذه العمالة، إضافة إلى عدم وضوح معظم قوانين العمل في تناول أدوار أصحاب العمل ومسؤولياتهم مقابل أدوار العاملين ومسؤولياتهم. وفي الغالب لا تحصل هذه الفئة من العمالة على أي مزايا. فهي لا تحصل على معاش تقاعد، ولا تستفيد من برامج الرعاية الصحية أو إعانات البطالة، ولا تحصل على أي من المزايا المعتادة التي يحصل عليها الموظفون الرسميون.
وهذا النوع من التقارب ليس هو ما كان متوقعا حدوثه خلال القرن الحادي والعشرين. وكان من المعتاد أن تقترن التنمية الاقتصادية بالطابع الرسمي، الأمر الذي ينعكس على تصميم نظم الحماية الاجتماعية ولوائح تنظيم سوق العمل. ولا يزال العقد الرسمي للعمل بأجر هو الأساس الأكثر شيوعا لتوفير سبل الحماية التي يمكن أن تتحملها برامج الضمان الاجتماعي وتحكمها اللوائح التنظيمية كتلك التي تقرر حدا أدنى للأجور أو لمدفوعات إنهاء الخدمة. والتغيرات في طبيعة العمل الناتجة عن التكنولوجيا تَُحوِّل أنماط طلب المزايا التي تحصل عليها العمالة من أصحاب العمل إلى طلب منافع الرعاية الاجتماعية من الدولة مباشرة.

عقد اجتماعي جديد
ظل الغرض الأصلي من نظم الحماية الاجتماعية كما هو: الحيلولة دون الوقوع في الفقر، وتغطية الخسائر التي تنتج عن كوارث، ومساعدة الأسر والأسواق على التعامل مع عدم اليقين، ثم في نهاية الأمر توفير أساس لتحقيق نتائج اقتصادية تتسم بقدر أكبر من الكفاءة والإنصاف. وهذه هي الأهداف التي حفَّزت مصممي ما عُرِف بأنه "دولة الرعاية الاجتماعية"، ومن المتوقع أن تحفز وتوجه الجهود التي تبذل للحفاظ على أهمية نظم الحماية الاجتماعية وعلى تجاوبها.
وهناك حاجة إلى نظم جديدة تلبي احتياجات الجميع، بصرف النظر عن طريقة انخراطهم في سوق العمل لكسب العيش. كذلك يجب أن تتسم هذه السياسات الجديدة بدرجة أكبر من قابلية التطويع والصلابة في مواجهة ديناميكية القوى الاقتصادية والاجتماعية والديمغرافية. وبعبارة أخرى، نحن في حاجة إلى عقد اجتماعي جديد... (يتبع)

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي