ثقافة وفنون

صناعة التفاهة .. لعبة بلا نص لكن الجميع يدركها

صناعة التفاهة .. لعبة بلا نص لكن الجميع يدركها

"هوت شمس الثقافة أرضا، حتى أصبح الأقزام أنفسهم يظهرون بمظهر العمالقة"، نستعير هذه المقولة للكاتب النمساوي كارل كراوس للدلالة على سيطرة التافهين وإحكامهم القبضة على العالم. ذات الفكرة دافع عنها؛ وباستماتة كبيرة آلن دونو الفيلسوف الكندي الشاب في كتابه "نظام التفاهة"؛ فالتافهون كثر من حولنا، يطلون من كل مكان، ويدخلون البيوت عنوة، وما باليد من حيلة لطردهم.
لقد وفّرت وسائل الإعلام الحديثة وشبكات التواصل الاجتماعي لهؤلاء فرصة للظهور والانتشار، بعدما تطبّع الناس تدريجيا مع هذا العبث، من خلال الدفع بنكرات ومجاهيل ومغمورين لم يكونوا شيئا إلى مدارج الشهرة ومصاعد النجومية؛ نتيجة قيامهم بأعمال "عبثية" وأشياء "تافهة". وعن هذا الوضع قال ذات مرة الروائي الأمريكي جورج سانتايانا "حب الشهرة أعلى درجات التفاهة".
لا تنحصر صناعة التفاهة في وسائل التواصل الاجتماعي فحسب؛ حتى إن ظلت مصدرها الأول بلا منازع، بل تتعداها إلى مسألة تسطيح الثقافة، وإلغاء القيم، والتباس المفاهيم... حينئذ تكثر الوجوه وتتعدد، لدرجة يختلط فيها الصالح بالطالح، فلا يُعرف أهل العلم عمن لبسوا ثوبه، وأصحاب الحق عن مدعيه.
التفاهة لغة هي انعدام القيمة والأهمية، وغياب الإبداع والبلادة والغباء، كما قد تعني الحقارة والدناءة. كل هذا وأكثر بإمكان التفاهة أن تستوعبه، فالقاعدة تقول "خالف الناس لتُعرف"؛ كي يكثر المعجبون بك، والمصفقون لك، والمقبلون عليك. إن الإنسانية تهوي في انهيار أخلاقي واجتماعي وقيمي سحيق.. مرحبا بك في عالم "العبث" و"اللايقين".
عودا إلى مؤلَف آلن دونو الذي يرى أن التفاهة تحيط بنا، فأينما تولي وجهك تجدها بازغة، ولا خيار لنا أمامها سوى أن نلعب اللعبة، فكل ما يقع؛ بحسب الكاتب، يجري وفق منهج محدد قوامه نزع السياسة عن الشأن العام، وعن التزام الإنسان بالقيم والمبادئ والقناعات.
صارت قاعدة النجاح، في ظل نظام التافهين، هي أن "تلعب اللعبة"، إذ لم يعد الأمر شأنا إنسانيا، ولا مسألة بشرية، ولا مستقبل كوكب، إنه فقط مجرد "لعبة". هذه القاعدة - في حد ذاتها - غير مكتوبة ولا نص لها، لكن الجميع يدركها، ويعمل وفقها؛ أليس هذا انتماء أعمى إلى جسم ما مجهول/ معلوم؟
صور التفاهة أكثر من أن تحصى في عالم اليوم، بل إنها وفق ما يبدو تحولت إلى نظام كامل على مستوى العالم، بعدما ارتبطت بالديكتاتورية والاستبداد، وتزييف الإرادات الجماهيرية للناس، والنفاق الاجتماعي المنتشر كثيرا في مفاهيم وعقليات الأمم والشعوب حاليا، وبالكذب والتضليل اليومي لوسائل الإعلام.
يقف الكاتب مطولا عند مسألة تنميط العمل؛ كصورة جلية لنظام التفاهة، فـ "المهنة" أصبحت "وظيفة"، يتعامل معها شاغلها كوسيلة للبقاء لا غير. أكثر من هذا، تحول الموظف إلى مجرد أداة، فبإمكانه أن يقضي في العمل يوميا عشر ساعات وهو يضع قطعة في سيارة، في وقت لا يجيد فيه إصلاح عطل بسيط في سيارته الخاصة. وقد يقضي حياته وهو ينتج منتوجا أو غذاء معينا لا يقدر على شرائه. أو يبيع كتبا ومجلات وهو لا يقرأ منها ولو سطرا واحدا. إنه الانحدار بكل ما تحمله الكلمة من معان.
لا مكان للعقل، ولا حاجة إلى الحس النقدي، ولا تفكر في إسداء النصح لأحد "لا تكن معتدا بنفسك، ولا روحانيا. فهذا يظهرك متكبرا، ولا تقدم أي فكرة جيدة... فقط التزم القواعد كما وضعت". هذه بعض من نصائح ابن الكيبيك لكل من لا يدرك جيدا مقومات وأسس اشتغال نظام التفاهة.
يعمد هذا الفيلسوف المزعج في الأوساط الكندية؛ خاصة بعد إصداره عام 2008 كتابا بعنوان مثير "كندا السوداء: النهب والإفساد والإجرام في إفريقيا"، على مدار فصول كتابه "نظام التفاهة" تقنية إشراك القارئ في السجال وبناء الأفكار، ليجد المتلقي نفسه في النهاية متفقا مع الكاتب فيما يتبناه ويطرحه من آراء.
من الحجج الواقعية والقوية التي عزّز بها الرجل أطروحته، قوله "إن نظام الرداءة والتفاهة يسمح لإنسان تافه وجاهل بأن يتاجر في المخدرات، ويعمد إلى تبييض أمواله، فيبني مستشفى يُشغل فيه الأطباء، أو يُشيد مدرسة أو جامعة تُشغل مدرسين وأساتذة، أو يُنشئ مقاولة يُوظف فيها مهندسين، فيغدو هذا التافه النكرة رمزا وقدوة في المجتمع، لا بل صاحب الرأي والمشورة والسلطة والقول؛ أمرا ونهيا".
يظل دونو متفائلا بالمستقبل، على الرغم من تشاؤمه من الواقع الراهن، فالتافهون كسبوا جولة أو شوطا، لكنهم لم يحسموا المباراة بشكل نهائي، ما دامت بؤر الممانعة قائمة، والأصوات المنتقدة تنطق، والدعوات مستمرة للتصدي للتجربة ومقاومة الإغراء، وإعادة المعاني إلى الكلمات والاعتبار إلى المفاهيم، وفرض الربط بين التنظير والممارسة.
لا بديل إذن عن المقاومة، فـ "ما دمت تقاوم فإنك لم تنهزم"، كما يقول المثل. علينا أن نعيد الاعتبار إلى المفاهيم الكبرى، من أجل التصدي للغة الإدارة الفارغة التي تقودنا. علينا أن نحيي مفاهيم في طريقها إلى الأفول، مثل المواطنة والشعب والنزاع والجدال والحقوق والمصلحة العامة والخدمة العامة والقطاع العام والخير العام... وأن نعيد إحياء التلازم بين الفكر والعمل، فلا فصل بينهما.
يبدو أن صرخة دونو؛ في 2015 سنة تأليف الكتاب، بدأت تلقى صدى بعدما امتدت أفكاره في الغرب والشرق على حد سواء، فقد انتشرت في الآونة الأخيرة في عديد من الأماكن لافتات مكتوبا عليها "توقف عن جعل الناس الأغبياء مشهورين"، فالدفع بالتافهين إلى الواجهة والمقدمة، يعد جريمة في حق الأجيال الناشئة.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون