متطلب ضريبي جديد .. تسعير المعاملات

أعلنت الهيئة العامة للزكاة والدخل الأسبوع الفائت، مسودة تعليمات تسعير المعاملات، التي تنتظر آراء العموم حتى التاسع من يناير، في إشارة إلى إصدار وشيك وتنفيذ سريع - كما جرت العادة من الهيئة العامة للزكاة والدخل - وربما يكون للسنة المالية الحالية 2018. تعتبر هذه المسودة خطوة جوهرية في تاريخ تطور النظام الضريبي في المملكة ابتداء من إصدارات النظام السابقة، وخروج نظام ضريبة الدخل، وإجراءات الاستقطاع قبل أكثر من 14 عاما، والاتفاقات الضريبية الثنائية المستمرة، إلى دخول ضريبة القيمة المضافة، واليوم تعليمات التسعير. وهي تمثل إثباتا لجدية المملكة في استمرار التحسينات الاقتصادية والضريبية على المستوى المحلي، ومواكبة التطورات العالمية في الوقت نفسه. ولكن كيف سيكون صدى هذه التعليمات على المستثمر؟ وعلى الاستعدادات الضريبية في بيئة الأعمال المحلية؟
تصدر الأنظمة الدولية التي تحاصر التلاعب المالي، وتقلل من خيارات المتلاعبين باستمرار، ومن ذلك التطورات الأخيرة المتعلقة باتفاقيات غسل الأموال، ومحاربة الإرهاب، ومنع التهرب الضريبي، وفاتكا والـ CRS وتعليمات التسعير الأخيرة خير مثال على ذلك. ومن جانب آخر، تزيد هذه الإجراءات والأنظمة من جهد المتابعة والالتزام، وتكبد الأعمال تكلفة مؤثرة، خصوصا عندما يصل الموضوع إلى ضعف الفهم والتطبيق، فتصبح حينها المخاطر أكبر بسبب المخالفات والغرامات وإجراءات الاعتراضات، وحل النزاعات.
خرجت تعليمات تسعير المعاملات عن جهود دول مجموعة العشرين مع منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OCED لضبط بعض الممارسات الضريبية التي تحاربها دول العالم. وتطبيقا لهذه المعلومات، تتم مطالبة بعض الجهات أو "المكلفين" بالإفصاح دوريا عن علاقاتها وخدماتها المقدمة والمتسلمة مع الجهات المرتبطة بها، ما يمنعها أساسا من التسعير بشكل تستفيد منه ضريبيا، ويكشف في الوقت نفسه للسلطة الضريبية نوافذ عديدة على الأسعار والتكلفة والهوامش التي تحققها هذه الجهات. يقوم مفهوم تسعير المعاملات أو Transfer Pricing - كما يطلق عليه - على فكرة أن الجهات المرتبطة أو التي تخضع لسيطرة مشتركة يجب أن تسعر عملياتها بشكل عادل يعكس سعر السوق، كما أن الخدمة مقدمة لطرف مستقل. وهذا لا يعد مفهوما جديدا أو غريبا، بل هو الأساس الذي تقوم عليه متطلبات الإفصاح في المعايير المحاسبية، كما أن لائحة ضريبة القيمة المضافة تحتوي على اعتبارات مشابهة للمفهوم نفسه. الجديد هنا أن الالتزام بتعليمات تسعير المعاملات يعني أن الجهات المملوكة لمستثمرين أجانب وتعمل في المملكة، ستكون مكشوفة بشكل أفضل للسلطات، بما يقلل من التلاعبات، وكذلك تكون هذه الجهات نفسها مكشوفة لدى دول أخرى؛ لأن الإفصاح يتم بموجب معايير دولية مشتركة قابلة للتشارك بين الدول الأعضاء الملتزمة بالاتفاقية، وهذا يعني محاصرة مباشرة للشركات التي تحاول أن تستفيد من اختلاف القواعد الضريبية بين الدول.
تمثل الاختلافات الضريبية بين الدول مشكلة كبرى؛ إذ إنها تؤدي إلى تحول الأرباح من مكان لآخر، وتدريجيا يبدأ حينها المستثمرون في اتخاذ القرارات بناء على الفائدة الضريبية لهم، وليس الاقتصادية، وهذه مشكلة أكبر. وأول من يشعر بهذه الآثار هو الحكومات، التي تتأثر اقتصاديا لخروج الأعمال من مناطقها، وضريبيا لفقدانها حصة جوهرية من إيرادات الضريبة. ولأن الإصلاح المباشر في دولة محددة بحد ذاتها لا يحل المشكلة كان من الضروري وجود اتفاقيات مشتركة بالقواعد نفسها والمعايير تقلل على المتسوقين ضريبيا خياراتهم الدولية، وهذا تحديدا ما أطلق عليه مشروع BEPS، أو تآكل الأوعية الضريبية وتحويل الأرباح.
لا تحقق تعليمات تسعير المعاملات الهدف المنشود إلا إذا وجدت في بيئة متناسقة متوائمة مع عدد من العناصر المهمة الأخرى. أول هذه العناصر هو الاتفاقيات الضريبية الثنائية، التي لا تتعارض مع آليات الالتزام المشترك الموجودة في قواعد التسعير. كذلك تقتضي هذه الترتيبات التقليل من الدول التي تستفيد من الفروق الضريبية، وهذه - في نظري - خطوة صعبة على الرغم من نص OCED على الاهتمام بهذه النقطة. كذلك يجب على الدول المشاركة، وبموجب هذه الترتيبات، إعادة النظر في أنظمتها المحلية، خصوصا الضريبية، لإزالة أي تعارضات موجودة. ومن المهم كذلك الإشارة إلى أن منشورات الـ OCED تذكر أن برنامج التنفيذ يشمل ضبط الأسباب التي تسمح بنمو المنشآت ذات الأغراض الخاصة، خصوصا تلك التي تستخدم للمناورات الضريبية، ومثلها المنشآت الأخرى التي تعكس وضع التجارة الإلكترونية، وفصل الشركات بين المكان الذي تؤول إليه الأرباح، وبين نموذج الربح ومكان حدوثه، لهذا تؤكد القواعد أن ضرائب القيمة المضافة والمبيعات يجب تحصيلها في مكان الاستهلاك "موقع العميل".
لا يخفى على أحد أن هذه التطورات لها دور كبير في دفع الإمكانات الضريبية - هيكليا ومهاريا - على المستوى المحلي، وهذه فرصة للمتأهلين الجدد في مهنة الضرائب والمحاسبة، ولكنها كذلك التزام ومسؤولية كبرى على الجهات ذات العلاقة "هيئات الزكاة والمحاسبة والدور التأهيلية". اللافت في مشروع الـ OCED أعلاه، أن اتفاقية التسعير التي نراها اليوم، وستدخل حيز التطبيق قريبا جدا، ليست إلا بداية لعصر جديد من الشفافية الدولية والالتزامات المحلية، وهذا باب كبير - إذا كتب له النجاح - سيشمل خطوات متنوعة من التغييرات المحتملة والواردة خلال السنوات المقبلة، هناك من سيستفيد منها، وهناك من سيتكبد تكلفتها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي