FINANCIAL TIMES

هل بات نموذج «بلد واحد ونظامان» في مهب الريح؟

هل بات نموذج «بلد واحد ونظامان» في مهب الريح؟

عندما اختطف العملاء الصينيون ناشرا ينتقد بكين، وقطبا ماليا كبيرا له علاقات سياسية قوية في هونج كونج، التي تتمتع بشبه حكم ذاتي، قال كثير من المستثمرين الأجانب في محافلهم، إنهما كانا شوكة في خاصرة بكين.
بعد أن شددت حكومة هونج كونج الضغوط التي تمارسها على الحركة الديموقراطية في المدينة، من خلال ملاحقة الناشطين وحظر سياسيي المعارضة من الترشح في الانتخابات، وحظر وجود حزب سياسي، قال مستثمرون إن السياسة المحلية لا تؤثر في الأعمال.
تظاهر التنفيذيون في الشركات بأنهم لم يروا ما فعلته بكين التي أكدت "ولايتها الشاملة" على هونج كونج، ما يعني إلغاء موقف ضبط النفس، الذي تميز به ترتيب السنوات الأولى القائم على فكرة "بلد واحد ونظامان"، والذي منحت بموجبه الصين هذه المدينة "درجة عالية من الحكم الذاتي" والحريات المدنية لمدة 50 عاما، بعد أن أعادتها السلطات البريطانية إلى بكين عام 1997.
على أن قرار حكومة هونج كونج المتمثل في طرد فيكتور ماليت، محرر الأخبار الآسيوية لدى صحيفة فاينانشيال تايمز، دفع أخيرا بعض ممثلي مجتمع الأعمال الدولي إلى مواجهة التهديدات المتزايدة لسيادة القانون في هونج كونج، حجر الزاوية لنجاح المدينة كمركز مالي عالمي.
تقول تارا جوزيف، رئيسة غرفة التجارة الأمريكية في هونج كونج: "مع تصاعد المشاكل، يصبح من الأصعب إخفاء ما يحصل، فالتدفق الحر للمعلومات والبيانات أمر مهم تماما لسمعة هذه السوق المالية".
رفضت الحكومة تجديد تأشيرة عمل ماليت - ومن ثم رفضت السماح له بدخول المدينة في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي - بعد أن أتاح نادي المراسلين الأجانب في المدينة لآندي تشان، أحد دعاة استقلال المدينة الذي حُظر لاحقا حزبه الوطني في هونج كونج، بإلقاء كلمة من خلاله.
يقول تشارلز موك، تنفيذي سابق في تكنولوجيا المعلومات، ويمثل القطاع في المجلس التشريعي الديموقراطي في هونج كونج، إن المستثمرين شعروا بالصدمة بسبب هذا القرار: "في السابق، عندما كنت أسافر للخارج من أجل الترويج للاستثمارات، كان سؤال الناس هو عما إذا كان يمكنهم تحقيق الأرباح، لكنهم الآن يسألون عن حرية التعبير عن الرأي والمشاكل ذات الصلة بسيادة القانون".

فتش عن تراجع المساهمة
هونج كونج أقل أهمية بكثير بالنسبة لبكين فيما يتعلق بالناتج الاقتصادي عما كانت عليه عام 1997، على اعتبار أن إجمالي الناتج المحلي فيها يعادل 3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للصين، مقارنة بـ20 في المائة في فترة تسليم السلطة.
إلا أنها تظل مركزا ماليا رئيسا، بالنسبة للأموال الأجنبية الوافدة إلى الصين، وبشكل متزايد بالنسبة لرأس المال الصيني الذي يذهب إلى الخارج.
مع تعرض حكومة هونج كونج للضغوط التي يمارسها الرئيس تشي جين بينج لكبح جماح المعارضة التي لا تقبل حكم بكين، يقول خبراء القانون إنه ينبغي للمستثمرين – والحكومة - أن يكونوا أكثر اهتماما بكثير بمسألة تلاشي حريات المدينة واستقلالها الذاتي.
إن استمر نفوذ بكين في التزايد على المدى المتوسط، فستخاطر هونج كونج بفقدان الميزة التفضيلية من حيث قدرتها على الوصول إلى الأسواق العالمية، التي ترتكز على الحفاظ على الوعد المتمثل في "درجة عالية من الحكم الذاتي".
يقول هو- فانج هانج، أستاذ الاقتصاد السياسي الصيني في جامعة جونز هوبكنز: "الوضع خطير للغاية"، محذرا من أن هونج كونج تخاطر بأن تتعرض للأذى بسبب تدهور العلاقات بين الصين والولايات المتحدة. "لم يعد باستطاعة الحكومات الغربية التظاهر بأن هونج كونج تتمتع باستقلال حقيقي عن بكين".
اتفاق "بلد واحد ونظامان" في هونج كونج، كما تم إقراره من قبل الزعيم الصيني السابق دينج كزياو بينج، هو تجربة سياسية فريدة من نوعها، لمعرفة ما إذا كان بإمكان مدينة تتمتع بحريات سياسية كثيرة البقاء على قيد الحياة والازدهار، داخل أقوى استبدادية في العالم.
تلك الصيغة، باعتبارها قائمة على تسوية سياسية بين المملكة المتحدة والصين، فهي مليئة بكثير من الصراعات والتناقضات.
القانون الأساسي في هونج كونج، أي الدستور المصغر في المدينة، يكفل الحقوق المدنية واستقلالية السلطة القضائية، ويحد ظاهريا من دور بكين في الدفاع والشؤون الخارجية. على أنه يتطلب أيضا من حكومة هونج كونج تنفيذ "التوجيهات" الصادرة عن بكين، وإقرار قوانين تحظر "الخيانة والانفصال والتحريض على العصيان والتخريب" (الذي لم تنفذه بعد) ويمنح بكين السلطة لنقض قرارات قضاة هونج كونج، من خلال إصدار "تفسيرات" لاحقة.
يقول جاسبر تسانج، وهو رئيس سابق للمجلس التشريعي، إن هذا الترتيب يعتمد على "تفاهم متبادل" بين الحكومة الصينية وسكان هونج كونج.
تسانج، الذي هو واحد من أبرز المؤيدين لبكين في هونج كونج، يقول إن توافق الآراء البراجماتي انهار على مدى السنوات القليلة الماضية، بعد أن أصبحت كل من بكين وهونج كونج عالقتين في "دائرة مفرغة".
ويقول: "من ناحية، يبدو أن شعب هونج كونج يشعر بأن الحكومة المركزية تعمل الآن على تشديد سيطرتها، على نحو يلغي مجال المناورة الذي منحته لشعب هونج كونج خلال السنوات الأولى بعد تسليم السلطة.
من ناحية أخرى، يبدو وكأن بكين أصبحت أكثر قلقا بكثير حول استقلال هونج كونج، وحول الموقف العدائي وإحساس الفُرقة الذي يتخذه الشباب في هونج كونج نحو الحكومة المركزية".
يقول جوشوا وونج، طالب ناشط يبلغ من العمر 22 عاما سُجِن بسبب دوره في الاحتجاجات المؤيدة للديموقراطية "احتلوا" Occupy عام 2014، إنه "ما دام الرئيس تشي موجودا ويحكم الصين، فلن تكون هنالك أي فرصة للديموقراطية في هونج كونج".
عملت تلك المشاعر على دفع عدد متزايد من الشباب إلى إدارة ظهورهم إلى الصين. في الانتخابات التي أجريت لعموم المدينة عام 2016، صوت نحو شخص واحد فقط من كل خمسة أشخاص في هونج كونج، لمصلحة مرشحين يؤيدون الاستقلال أو حق تقرير المصير. أظهرت استطلاعات الرأي أنه يغلب على تأييد الاستقلال أن يكون أقوى بين الشباب.
أثار هذا التوجه الخوف في صفوف قيادة الحزب الشيوعي في الصين، التي ترى أن النزعة الانفصالية - سواء في التبت أو تشينجيانج أو هونج كونج - تمثل تهديدا أساسيا لشرعية الحزب.
في زيارة نادرة جرت العام الماضي للاحتفال بمرور 20 عاما على تسليم السلطة، حذر الرئيس تشي شعب هونج كونج من عدم تجاوز "الخط الأحمر" المتمثل في "تعريض سيادة وأمن الصين للخطر" أو "تحدي سلطة الحكومة المركزية".
يقول أحد مسؤولي حكومة هونج كونج: "نحن نتعرض لكثير من الضغوط التي تمارسها بكين. ما لم نتمكن من أن نبين أننا نقوم بمعالجة قضية الاستقلال، ستزداد الضغوط على هونج كونج".
فيليب دايكس، رئيس نقابة المحامين في هونج كونج، يخشى أن يكون حكم القانون قد بدأ يقع ضحية للقمع السياسي.
وهو يجادل بأن "الخط الأحمر" الذي يتبعه تشي مصطلح غامض وعام يصلح لكل شيء، ويمكن استخدامه بشكل تعسفي ضد المنشقين. يقول: "ستعرف متى تجاوزته، حتى لو لم تستطع رؤيته". أُخِذت وسائل الإعلام ومجتمعات الأعمال على حين غرة؛ بسبب القرار غير المسبوق الذي تعرض له ماليت، وهي المرة الأولى التي يحرم فيها صحافي أجنبي من الحصول على تأشيرة منذ تسليم السلطة إلى بكين من لندن.
يقول الناشطون إن هذا الحادث أقل خطورة على سجل هونج كونج من اختطاف الناشر لي بو، الذي اختفى عام 2015، ورجل الأعمال تشياو جيان هوا، الذي اقتيدَ من أحد فنادق هونج كونج عام 2017 ويعتقد أنه محتجز في شنغهاي. كما أنه - كما يقولون - ليس بخطورة استخدام حكومة هونج كونج للقوانين الاستعمارية الغامضة، والإجراءات الإدارية المبتكرة لإضعاف الحركة الديمقراطية.
على أن الدبلوماسيين الغربيين يقولون إنهم قلقون من طرد ماليت بسبب الطبيعة المتقلبة للقرار، واستخدام أداة قمعية مباشرة من كتاب القواعد في بكين، ما يوحي بأن هونج كونج تتحول ببطء لتصبح مثل أي مدينة صينية أخرى.
رفضت حكومة هونج كونج إعطاء أسباب لقرارها الذي يعتبر من الناحية العملية طردا لماليت، على الرغم من أن الساسة المؤيدين لبكين ووسائل الإعلام الحكومية الصينية ربطوا القرار باستضافته للحديث الذي أجراه تشان.
وترأس هذا الحدث في آب (أغسطس) الماضي، بصفته الرئيس بالإنابة لنادي المراسلين الأجانب، الذي له تاريخ طويل في استضافة مناقشات مع شخصيات سياسية، بما في ذلك كبار المسؤولين في هونج كونج والصين.
في مناخ من "الضغط المتزايد" على بلد واحد ونظامين، حذر مارك فيلد، الوزير البريطاني لشؤون آسيا، من أن حوادث مثل رفض منح التأشيرة إلى ماليت "ستؤثر في ثقة الأعمال بهونج كونج".
المحللون في المصارف الاستثمارية في هونج كونج مترددون أصلا في انتقاد الحكومة الصينية أو الشركات الصينية المملوكة للدولة خوفا من العقاب الحكومي، وفقا لرئيس قسم الأبحاث في أحد المصارف العالمية.
وقد زادت هذه المخاوف بشأن حرية التعبير من تفاقم المخاوف الأعمق حول "تحويل هونج كونج لتصبح مثل البر الرئيس"، كما يسميها سياسيو المعارضة.
يشعر الخبراء القانونيون على وجه الخصوص بالتخوف إزاء رغبة بكين في استخدام سلطتها الدستورية، لإبطال النظام القانوني المستقل في هونج كونج.
في إحدى الحالات عام 2016، طلبت بكين عزل أعضاء المجلس التشريعي الذين اعتبروا غير مخلصين، وفي العام الماضي، أعلنت أن جزءا من محطة سكك حديدية جديدة عالية السرعة في قلب هونج كونج، أرض تابعة للبر الرئيس ستحرسها أجهزة إنفاذ القانون الصينية.
يقول مارك دالي، المحامي في مجال حقوق الإنسان، الذي يدافع عن تشان في دعوى الاستئناف التي قدمها ضد حظر الحزب الوطني في هونج كونج: "إنه أبرز دليل على مناهضة حكم القانون أن تكون هناك مراسيم من ديكتاتورية تتسلل إلى نظامنا القانوني. لا يوجد ضبط ذاتي من قبل بكين".
إيريك تشيونج، المحاضر في القانون في جامعة هونج كونج، يعبر عن الأمر بشكل صارخ. يقول: "نحن نتحول من حكم القانون إلى الحكم بموجب القانون. الآن ما تقوله بكين هو القانون".
بريسيلا لونج، وهي عضو في المجلس التشريعي المؤيد لبكين ومحامية، ترفض هذا النقد، بحجة أن ناشطي الديمقراطية يحاولون تحويل حكم القانون إلى "شعار" من أجل "الدفاع عن أهدافهم السياسية".
وتقول إنّ أنصار حركة احتلوا Occupy، الذين يطالبون بالاستقلال عن الصين هم الذين يقوّضون الاستقرار السياسي. وتضيف قائلة: "سيادة القانون هي روح اتباع القانون واحترام القانون والتمسك بسيادة القانون". وتردد تعليقاتها صدى المسؤولين في بكين وهونج كونج الذين رفضوا جوقة الانتقادات المتصاعدة، بما في ذلك من غرف الأعمال الدولية التي كانت مترددة في السابق في هونج كونج والحكومات الأجنبية.
تقول وزارة العدل في هونج كونج إن "من الخطأ الاعتقاد أن تدعيم الوحدة الوطنية وسلامتها يتعارضان مع سيادة القانون". وأضافت أن "سيادة القانون متأصلة في حياتنا اليومية... بما في ذلك الطريقة التي تتم بها الأعمال".
لا تزال بعض الشركات تعتقد أنها يمكن أن تزدهر على الرغم من الضغوط من بكين. يقول أحد التنفيذيين في مجموعة في هونج كونج: "لست سعيدًا تماما بتأثير البر الرئيس المتزايد، ولكن ليس هناك كثير مما يمكننا فعله حيال ذلك. على أننا لا نزال نرى كثيرا من الفرص في هونج كونج، بغض النظر عن السياسة".
على أن هناك آخرين يحثون الحكومة على عكس مسارها قبل أن يفوت الأوان. تقول جوزيف من غرفة التجارة الأمريكية: "نحن لسنا في النقطة التي ينسحب فيها الناس. ما الذي يتطلبه الأمر؟ قد يستغرق الأمر شعورًا بأن بياناتهم تؤخذ أو تجري مراجعتها، أو الشعور بأنه ليس هناك مجال متكافئ للعمل من حيث الأعمال الغربية مقابل البر الرئيس".
في خطاب وداعي في الفترة الأخيرة، حذر القاضي الأول المتقاعد روبرت تانج من المعركة الأوسع في المرحلة المقبلة، داعياً الجمهور إلى الدفاع عن حكم القانون "بحيث لا يمكن أن يُنزَع من بين أيدينا بسهولة".
وحث أهل هونج كونج بقوله: "اجعلوا صوتكم مسموعا، واجعلوا تصويتكم يحقق الأثر. صدقوني، ثمن الحرية هو بالتأكيد يقظة أبدية".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES