Author

اقتصاديات المناخ .. ومخاطره على العالم

|
يؤثر الطقس والمناخ بوجه عام في المتغيرات الاقتصادية، وتحدث قدماء اليونانيين عن العلاقة القوية بين المناخ والتنمية والنشاط الاقتصادي، كما تطرق ابن خلدون في مقدمته الشهيرة عن دور المناخ في الحياة الاقتصادية. تحدد درجات الحرارة ومعدلات تساقط الأمطار والرطوبة والرياح والعواصف نوعية وحجم كثير من الأنشطة الاقتصادية. وتؤثر تغيرات المناخ والطقس بقوة في نواتج القطاعات الزراعية والصناعية، وإنتاجية العمالة، والطلب على الطاقة، والصحة، والنمو الاقتصادي، ومعدلات الأعمار. يلعب المناخ أيضا دورا بارزا في حجم الاستثمار ونوعيته، كما تتسبب كوارثه في إحداث هزات اقتصادية بعضها مدمرة ومعيقة للأنشطة الاقتصادية بدرجات تتناسب مع حجمها وشدتها. يمتد تأثير المناخ والطقس حتى إلى التقنيات المستخدمة ومدى تطورها، في المقابل يبدو أن المناخ بدأ يتأثر بالآثار السلبية للتقنية التي أبرزها ارتفاع تركزات الغازات الدفيئة. يعتقد عديد من الباحثين بوجود علاقة عكسية بين مستويات الدخل ومعدلات درجات الحرارة، أي أن معدلات الدخل المرتفعة تحدث في الدول التي تنخفض فيها معدلات درجات الحرارة، بينما تتراجع في الدول التي ترتفع فيها. ويدعم ذلك وقوع معظم الدول منخفضة الدخل إن لم يكن كلها في المناطق الحارة في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، حتى على مستوى القارات نجد اختلافات مرتبطة بمعدلات درجات الحرارة، فمعدلات الدخل في جنوب القارة الأوروبية الأكثر حرارة أقل من معدلات الدخل في وسط وشمال القارة الأقل حرارة. ومن المعلوم أن معدلات دخل الفرد بوجه عام ترتفع مع ارتفاع إنتاجية العمالة. ويعلل بعض المختصين هذا الاختلاف بتسبب درجات الحرارة المرتفعة في إجهاد العمالة وإرهاقها عند بذل المجهود البدني أو العقلي. ويعود الشعور بالإجهاد في المناطق الحارة إلى انخفاض تركيز الأكسجين في الهواء مقارنة بالمناطق التي تقع في المناطق المعتدلة والباردة. أما حديثا فقد قللت التطورات التقنية وخصوصا التكييف من تأثيرات ارتفاع الحرارة السلبية في إنتاجية العمالة وخصوصا في أماكن العمل المغلقة. وقد أظهرت دراسات كثيرة وحديثة أن هناك علاقة سلبية بين درجات الحرارة المرتفعة ومعدلات دخل الفرد في بلدان العالم المختلفة. وحاولت بعض الدراسات قياس تأثير ازدياد الحرارة في معدلات دخل الفرد في بلدان مختلفة، ووجد بعضها أن هناك زيادة معتبرة في معدلات دخل الفرد في حالة انخفاض معدلات حرارة الطقس بدرجة مئوية واحدة. كما وجدت بعض الدراسات أن هناك تفاوتا بين معدلات دخل الفرد حتى داخل البلدان بناء على معدلات درجات الحرارة ولكن بدرجة تقل كثيرا عن التفاوت بين البلدان. تتسبب درجات الحرارة المتطرفة سواء المرتفعة والحارة أو المنخفضة والباردة في زيادة تكاليف إنتاج السلع والخدمات ما يخفض من قدرة هذه المناطق على المنافسة مع منتجي المناطق المعتدلة مناخيا. ويتطلب التكيف مع درجات الحرارة المتطرفة استهلاك كميات كبيرة من الطاقة من أجل تهيئة الأجواء للمعيشة والعمل والإنتاج، كما يتطلب إنشاءات وبنية أساسية أكثر تكلفة وتعقيدا من نظيراتها في المناطق المعتدلة. ولهذا تنخفض عادةً التركزات السكانية في المناطق متطرفة الحرارة، بينما يرتفع سكان المناطق الأكثر اعتدالا ومناسبة للعيش والعمل. وهذا يفسر إلى حد كبير أسباب انخفاض عدد سكان المناطق الصحراوية والمناطق الباردة والجليدية القريبة من القطبين. على أن درجات الحرارة ليست المتغير الوحيد المرتبط بالمناخ، حيث يرتبط توافر المياه بالمناخ بدرجة كبيرة. وقد لعب توافر المياه الدور الأبرز في تطور الحضارات واستقرار السكان. ولا يخفى على أحد أن معظم التركزات السكانية في العالم مرتبطة بتوافر المياه، حيث يعيش معظم سكان العالم في مناطق غنية بالمياه كأحواض الأنهار العظيمة في الشرق والغرب. وقد نشأت معظم الحضارات القديمة كالبابلية والمصرية والهندية والصينية في أحواض الأنهار. وتأتي معظم مياه الأنهار والينابيع والجداول من الأحداث المناخية. من جهة أخرى قد تحدث التغيرات المناخية كوارث إنسانية وسياسية واقتصادية مخفضة للناتج المحلي. وقد تسببت كارثة مناخية في تعميق الأزمة السياسية بين شرق وغرب باكستان ما أدى إلى انفصال شرق باكستان وولادة بنجلادش عام 1971. ويتطلب محو آثار الكوارث المناخية في كثير من الأحيان مبالغ ضخمة تعجز البلدان المتضررة عن توفيرها وتجبرها على طلب العون الخارجي ما يعرضها للضغوط الأجنبية. يواجه العالم مخاطر تغيرات مناخية يرجح كثير من المختصين تسبب الأنشطة البشرية بها. ويلاحظ في الآونة الأخيرة زيادة معدلات الحرارة والتغيرات المناخية الحادة كالأعاصير العاتية. وقد نشبت أخيرا حرائق هائلة في ولاية كاليفورنيا الأمريكية يرى البعض وقوف التغيرات المناخية خلف توسعها السريع وضخامة حجمها. على أن التغيرات المناخية قد تكون إيجابية في بعض البلدان كاحتمال ارتفاع درجات حرارة بعض البلدان الباردة أو زيادة معدلات تساقط أمطار المناطق التي تعاني انخفاض معدلاتها. وقد شهدت المملكة أخيرا زيادة معتبرة في معدلات تساقط الأمطار. ومن خلال المشاهدة البسيطة للتغيرات المناخية تشهد المملكة كل عقد أو عقدين سنة مطيرة استثنائية. فهل زيادة تساقط الأمطار أخيرا ناتجة من تغيرات مناخية طويلة الأمد أم أنها ناتجة من الدورة المناخية المعتادة؟ والجواب الله أعلم، وهو القادر على أن يديم الخير.
إنشرها