«النباتيون» .. فلسفة الحقائق المنقوصة

«النباتيون» .. فلسفة الحقائق المنقوصة

توشك "النباتية" أن تتحول إلى موضة، بسبب ازدياد الإقبال عليها؛ بفضل ما توفره وسائل التواصل الاجتماعي من سهولة أمام هؤلاء لنشر أفكارهم، في زمن السيولة في الأخبار أي "الفيك نيوز"، والاستناد على حقائق منقوصة بغرض تضليل العامة.
يحتفي أنصار هذه الفلسفة في الأول من تشرين الأول (أكتوبر) كل سنة؛ منذ عام 1977 باليوم العالمي للنباتيين، الذي يرجع الفضل في إقراره إلى الجمعية النباتية في أمريكا الشمالية، التي لها باع طويل إلى جانب منظمات نباتية أخرى "الاتحاد الدولي، الرابطة الأمريكية..." في الدفاع عن هذه الأفكار؛ منذ تأسيسها في 30 أيلول (سبتمبر) 1847. بينما اختار المتشددون منهم؛ منذ عام 1994، الأول من شهر تشرين الثاني (نوفمبر)، موعدا سنويا للاحتفال باليوم العالمي للخضريين. يبقى الاختلاف الجوهري بين المذهب في انحصار النظام الغذائي للخضريين المعروف بـ"النباتية الصرفة" في الخضراوات؛ فهم يعتمدون على النباتات فقط، ولا يتناولون أي شيء من الحيوانات، مثل الألبان والأجبان والبيض والعسل.. فيما يتسع النظام الخاص بالنباتيين ليشمل منتجات حيوانية، كالحليب والزبدة والدهون، ويمتد لدى بعضهم إلى المنتجات الغذائية البحرية والنهرية.
الاختلاف قائم أيضا لجهة الخلفيات المؤطرة لأنصار النباتية، فقد تكون منطلقات دينية؛ كما يحدث في الهند بلد النباتيين الأول في العالم، فأزيد من 40 في المائة نباتيون، بسبب قناعاتهم الدينية. وقد تكون منطلقات أخلاقية؛ برفض قتل الحيوانات و/أو تعذيبها من أجل توفير الغداء للبشر. ويحدث أن يكون السبب صحيا، فهناك من يرى أن هذا النظام صحي. كما تؤكد ذلك مقولة منسوبة لآينشتاين "لا شيء يفيد صحة الإنسان ويدعم فرص الحياة على وجه الأرض أكثر من النظام الغذائي النباتي".
تاريخيا، وبعيدا عن تلك الفوارق، نذكر بأن النباتيين منتشرين عبر التاريخ الإنساني، فنجد من مشاهير النباتيين في الغرب القديم علماء مثل إقليدس، أحد عباقرة الرياضيات والفلسفة الإغريقية، والفيلسوف والرياضي الشهير فيثاغورس، الذي امتنع عن تناول اللحوم لاعتقاده فيما يسمي بتناسخ الأرواح. ومن أعلام العرب نذكر الشاعر أبو العلاء المعري والأديب ابن المقفع والطبيب الأندلسي ابن البيطار ومؤسس علم الجبر الخوارزمي الذي كان يكره اللحوم تماما، دون أن يفصح عن سبب هذه الكراهية.
وفي العصر الحديث، تطول القائمة التي نختار منها المعماري ليوناردو دا فينشي الذي كان يشترى العصافير والدواجن ويطلق سراحها. وبنجامين فرانكلين أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الذي أصبح نباتيا في سن الـ 16 من العمر. والمفكر والمصلح الاجتماعي ليو تولستوي. والأب الروحي للهند الملتزم بتعاليم الديانة الهندوسية. والمخترع توماس أديسون والرئيس الأمريكي بيل كلينتون لدواع صحية بناء على توجيهات الأطباء لكل منهما.
يفتقد حملة الفكر النباتي إلى حجج قوية يمكن أن تعضد أطروحتهم، فالقول إن الفطرة الإنسانية نباتية، اعتمادا على المقارنة بين بنية أسنان الإنسان وأسنان الحيوان مردود عليه. والاستعانة بالأبحاث من أجل التأكيد على أن الوجبات الغذائية ذات الأصل النباتي أكثر استدامة وملائمة للبيئة من وجبات المنتجات الحيوانية، وأن النباتيين يتمتعون بصحة أفضل من آكلي اللحوم، يظل نسبيا إلى حد كبير، ويبقى محل نظر واستفهام كبيرين، لوجود دراسات مضادة تثبت العكس من ذلك تماما.
إذ نجد أن أغلب "الدراسات العلمية" المعتمدة عليها، في هذا الشأن، تبقى من صنف "دراسات المراقبة". وفق ما جاء في كتاب "جنون التغذية" للكاتب الألماني أوفه كنوب، الذي يعد أن هذا الصنف من الدراسة يمكن أن يعطي نتائج خاطئة، لأنه لا يدرس جميع العوامل، إنما يأخذ في بعض الأحيان بعض العوامل لدراستها عن طريق الصدفة.
يصوغ بعض البيئيين معادلات بيئية من أجل التأكيد على صحة آرائهم، فهذا أحدهم يتساءل: "لماذا نزرع طعاما لحيوانات على أرض يمكن أن نستخدمها من أجل زراعة الأطعمة للآدميين؟ ولماذا التركيز على الحيوانات الحية التي تنشر غاز الميثان السام في الجو؟". ويضيف آخر، أن طفلا يموت كل 3.5 ثانية في العالم بسبب الجوع، في حين نضيع أزيد من 60 في المائة من حبوب الأرض لتعليف المواشي بدل أن يستفيد منها الإنسان والأطفال للتخلص من المجاعة العالمية.
هذه المرافعة لا تصمد طويلا أمام لغة الاقتصاد التي تحذر هؤلاء، ومن يحوم في فلكهم، من الأزمة التي سيحدثونها في مجال الثروة الحيوانية، متى اقتنع العالم بأفكارهم وسار على مذهبهم. فنهاك أكثر من 3.5 مليار من الحيوانات المجترة على سطح الأرض، وعشرات المليارات من الدجاج، يجري إنتاجها وذبحها جميعا لتوفير الغذاء كل عام. ثم هل تمت مهن بديلة للعاملين في مجال الثروة الحيوانية، حيث يتوقع أن يحدث الأمر على الأرجح بطالة كبيرة واضطرابا اجتماعيا، خاصة في المناطق الريفية التي لها علاقة وثيقة بهذا النشاط الاقتصادي. من الناحية الثقافية، سيجهز النباتيون بسبب هذه الأفكار على إرث ثقافي إنساني كبير، فاللحم شكل جزءا من التاريخ والتقاليد والعادات. كما أن الحيوانات في كثير من مناطق العالم، تقدم كهدايا في الزواج والطقوس الدينية، وتعتمد في لقاءات احتفالية مثل أعياد الميلاد "الديك الرومي" أو عيد الأضحى "الأكباش والماعز...". كما أن الأطباق المعتمدة على اللحوم تعد أمورا رمزية مهمة في مناطق وجماعات معينة من البشر.
إن موجة انتشار فلسفة النباتيين عائدة بالدرجة الأولى إلى الترويج الذي توفره لها شبكات التواصل الاجتماعي من ناحية، وإلى تحولها إلى صناعة جوهرها رأسمالية متوحشة، تستعين بخطاب اللحظة الراهنة "البيئة" و"الاستدامة"... مسايرة للموجة من أجل تحقيق مكاسب تجارية خالصة.
صفوة القول، إن الطعام الصحي يعني الأكل المتوازن أكثر من كونه يتعلق بوجبات نباتية أو غير نباتية... واحذروا مما يروج من حقائق منقوصة تهدف إلى التضليل وليس التنوير، على غرار قصة "أحادي أكسيد الهيدروجين".

الأكثر قراءة