Author

هل سنبكي لسان الضاد؟

|
أستاذ جامعي ـ السويد
في مقال نشرته مجلة الإيكونيميست البريطانية الشهيرة أخيرا حول اللغة العربية وحاضرها، يستشف المرء أن لسان الضاد في خطر، وأننا قد نشهد اندثاره في المستقبل القريب. ولقد قرأت المقال بتعمق وأكثر من مرة. بيد أن ما استرعى انتباهي هو المدى والتأثير الذي أحدثه في الأروقة الأكاديمية والجامعية في الغرب، وكذلك في وسائل الإعلام الغربية التي تعنى بشؤون العرب والمسلمين. لقد أشبعه المهتمون باللغة العربية في الغرب ومعهم حشد من المستشرقين نقاشا وتعليقا. ونقل كثير من المواقع اقتباسات مطولة عنه. لكن ما يثير الحزن والشجن هو عدم اكتراث الأروقة العلمية والأكاديمية والجامعية العربية للمقال المهم هذا. حسب اطلاعي، لم ألحظ ترجمة للمقال، عدا تقريرا أو تقريرين في موقعين على الشبكة العنكبوتية. بينما لا يزال النقاش محتدما في الغرب من قبل المهتمين بلسان الضاد في أعقاب هذا المقال، لم ألحظ كذلك – حسب اطلاعي – أن العالم العربي الذي يكاد يغرق في يم وسائل التواصل الاجتماعي مثل "تويتر" وغيره – أن جعل من المقال مادة للمناقشة وتبادل الآراء. هذه الحال تدلل على أن النبرة التشاؤمية في مقال مجلة الإيكونيميست حول حاضر ومستقبل اللغة العربية لها ما يسندها من براهين؛ ويأتي في مقدمتها أن أصحاب هذه اللغة لم يعودوا يهتمون بحاضرها ومستقبلها كثيرا. كلغوي وكذلك كمحب للسان الضاد، قد لا أتفق مع بعض الأسس العلمية التي بنت المجلة عليها المقال. سأتجاوزها ليس لعدم أهميتها بل لأن ما يسرده المقال من فرضيات خطيرة حول العربية في رأيي له ما يبرره وعلينا إبرازه. قد يذهب بعيدا المقال في قوله "إن اللغة العربية لم تعد لغة واحدة بل عدة لغات، وإن الذي يرغب في تعلمها عليه تعلم لغتين في آن واحد". إلا أن هذا صحيح إلى حدّ ما، للبون الشاسع الذي نلاحظه بين اللهجات في مختلف الدول العربية وبين اللغة العربية المعيارية standard Arabic . ووصل الاختلاف من حيث المفردات واللفظ والنحو والصرف درجة أن التلميذ في المدرسة يتصور أحيانا أنه أمام لغة جديدة، وهو يدرس العربية المعيارية. وهذا ما حدا ببعض المثقفين والمؤسسات العربية إلى الطلب رسميا استبدال اللغة المعيارية باللهجة الدارجة. وهذا التحول صوب اللهجات المحلية أصبح واقعا ملموسا في الإعلام "الراديو والتلفزيون" وفي كثير من الدول العربية. ونستشف من المقال أن العرب أنفسهم يضعون لغتهم في مرتبة أدنى من لغات مثل الإنجليزية والفرنسية، وهذا ما يحط من قدرها لدى الجيل الجديد والأجيال القادمة. وهذا أيضا واقع الحال، حيث نرى أن الناس في دول الخليج ولبنان والأردن وبعض دول شمال إفريقيا تضع التعليم حتى على المستوى الابتدائي بلغة أجنبية لأطفالها في خانة أرفع بكثير من التعليم باللغة العربية. ومن ثم يقول المقال "إن الناس تعزف أو تأبى التحدث باللغة المعيارية "الفصيحة" التي أخذ رونقها وتأثيرها ومفعولها يضمحل تدريجيا". قد لا أتفق مع المجلة في موقفها من اللغة الفصيحة، لأنها بالنسبة إلي مثلا هي مفتاح الدخول لا بل الولوج إلى المجتمع العربي من أوسع الأبواب. وقد منحني إتقانها نطقا وكتابة موقعا مميزا بين أقراني الجامعيين وطلبتي من العرب عند إقامتي بين ظهرانيهم. لكن لا أظن أن أي جامعة عربية تجعل من اللغة المعيارية أساسا لإلقاء المحاضرات والتفاعل مع الطلبة نطقا وكتابة. وتتطرق "الإيكونيميست" ببعض الإسهاب إلى العوامل التي بدأت تأكل من جرف اللغة العربية وتعزوها إلى ضعف الناطقين بها وأفول دورهم في الحضارة الإنسانية، ما جعلها أدنى مرتبة من الفرنسية والإيطالية مثلا رغم أن أعدادهم أضعاف أعداد الناطقين بهاتين اللغتين الأوربيتين. لا غرو أن يتجاوز عدد الكتب المترجمة إلى السويدية في السنة الواحدة - والسويدية ينطقها نحو عشرة ملايين شخص - أضعاف ما يترجم إلى العربية في السنة الواحدة، والعربية ينطقها أكثر من 300 مليون شخص. ولا غرو ألا تتجاوز سوق الكتاب في البلدان العربية المؤلفة من أكثر من 300 مليون نسمة ربع سوق الكتاب في بلد مثل بلجيكا الذي لا يتجاوز سكانه 12 مليونا. قوة ومكانة أي لغة تنبع أساسا من قوة ومكانة الناطقين بها. ضعف اللغة العربية الفصيحة مؤشر إلى ضعف العرب. ألم يحن الأوان أن يوظف العرب، ولا سيما دولهم التي هي مركز الثراء الاستراتيجي في العالم، جزءا من ثرواتهم للاستثمار في أعز ما يملكون، وهو لغة الضاد التي وسعت قرآنهم وحديثهم الشريف وأيامهم وتاريخهم وعلومهم ووجودهم كأمة، فكيف لها لا تسع حاضرهم ومستقبلهم. أفضل استثمار وتوظيف للثراء الاستراتيجي يكون في داخل الأوطان وفي رحمها؛ ولا رحم للعرب أكثر دفئا وحنانا من لغتهم.
إنشرها