التحول الرقمي .. وعمليات التنمية

في تعاملها مع احتياجات الإنسان وطموحاته، أنجبت علوم الكهرباء "تقنية الاتصالات" في نحو منتصف القرن التاسع عشر للميلاد لتقوم بنقل المعلومات، وتمكين التواصل بين الناس عبر المسافات. ومع ظهور علوم الإلكترونيات، المُتفرعة عن علوم الكهرباء، في مطلع القرن العشرين تعززت تقنية الاتصالات بمزيد من الإمكانات، وانطلقت نحو توسيع دائرة خدماتها لتمكن الجميع من التواصل حول العالم. وكان لهذا التواصل دور في زيادة رشاقة التعامل بين الناس، وتفعيل التجارة، وتشجيع الإنتاج، وتنشيط التنافس بين المنتجين، وصولا إلى الإسهام في التنمية على نطاق واسع.
ومع الاقتراب من منتصف القرن العشرين، بدأت علوم الإلكترونيات تشهد تقدما كبيرا في وسائلها وإمكاناتها. ولم يؤد ذلك إلى مزيد من تعزيز تقنيات الاتصالات فقط، بل قاد أيضا إلى ظهور تقنية جديدة هي "تقنية الحاسوب" التي تقوم بتخزين المعلومات ومعالجتها تبعا لرغبة الإنسان، بناء على برامج يضعها لهذه الغاية. وهكذا، جاء التكامل بين تقنية الاتصالات القادرة على نقل المعلومات، وتقنية الحاسوب القادرة على تخزين المعلومات ومعالجتها. وباتت هذه الوظائف تتم بصورة "أسرع، وعبر أجهزة أصغر، وأقل تكلفة، وأكثر أمنا، وأفضل مرونة". وعلى هذا الأساس، بنيت الشبكات، وظهرت الإنترنت في مطلع التسعينيات من القرن العشرين، وبرزت التطبيقات في شتى المجالات، ليظهر "الفضاء السيبراني"، مع بدايات القرن الحادي والعشرين، ويُحَوكِم "العالم المادي"، مسهما في التنمية ومُعززا لاستدامتها.
ومع مزيد من تقدم الإلكترونيات، وانطلاقة علم "الذكاء الاصطناعي" في معالجة المعلومات، خصوصا منذ بداية القرن الحادي والعشرين، أصبح التعامل مع المعلومات يتم بصورة "أذكى" أيضا. وفتح هذا الأمر الباب أمام تطبيقات عديدة مثل: "أنظمة الروبوت"؛ و"أنظمة التحكم" التي تُبنى داخل الأنظمة المختلفة لضبط عملها، كما هو الحال في أنظمة التحكم داخل الطائرات والسيارات والمصانع؛ و"أنظمة البيانات الكبرى" التي تستخلص معارف مفيدة من بيانات المعلومات المنتشرة عبر الشبكات؛ ناهيك أيضا عن ظهور "إنترنت الأشياء" وتطبيقاتها. وهكذا، فإن كل التقنيات تحدثنا عنها فيما سبق، باتت تحمل اسم "التقنية الرقمية"، لأنها تستند في بنيتها الأساسية إلى "الإلكترونيات الرقمية" التي تُخزّن، وتعالج، وتنقل المعلومات إلكترونيا باستخدام النظام الرقمي الثنائي ذي الحالتين "صفر، وواحد".
إذا كان التحول الرقمي يرتبط باستخدام "التقنية الرقمية" والاستفادة من مزاياها في "تفعيل عمليات التنمية في جميع مجالاتها، وتعزيز استدامتها على مستوى العالم"، فإن هذا التحول ليس جديدا، بل إنه قد بدأ منذ زمن، كما هو موضح فيما سبق. وإذا نظرنا إلى الأمر ابتداء من بداية الألفية الثالثة للميلاد، أي انطلاق القرن الحادي والعشرين، فإن هناك حدثين مهمين يستحقان الاهتمام لرصد ما تم بشأن دور التحول الرقمي في التنمية على مستوى العالم حتى عام 2015 من ناحية؛ وما يفترض أن يتم بحلول عام 2030 من ناحية أخرى.
جاء الحدث الأول عام 2000، حيث اجتمع قادة دول العالم في قمة عالمية في نيويورك ووضعوا أهدافا تنموية يُطلب العمل على تحقيقها على مستوى العالم، بحلول عام 2015، وعرفت "بالأهداف الألفية للتنمية MDG". وشملت هذه الأهداف: القضاء على الفقر المدقع والجوع؛ وتوفير التعليم الابتدائي للجميع؛ وتحقيق المساواة بين الجنسين؛ والحد من موت الأطفال؛ والعناية بصحة الأمهات؛ ومقاومة الأوبئة؛ والمحافظة على البيئة؛ والحرص على التعاون من أجل التنمية. وقد ورد في سياق تفاصيل الأهداف "ضرورة توفير التقنيات المفيدة للتنمية على نطاق واسع، خصوصا تقنيات المعلومات والاتصالات".
ونظرا لأهمية تقنيات المعلومات والاتصالات في التنمية، اجتمع زعماء العالم مرتين أخريين عام 2003 في جنيف و2005 في تونس تحت شعار "القمة العالمية لمجتمع المعلومات WSIS"، وحددوا أهدافا لتفعيل استخدام تقنيات المعلومات والاتصالات للاستفادة منها في تحقيق التنمية المنشودة بحلول عام 2015. وشملت أهداف هذه القمة: توفير البنية التقنية المعلوماتية اللازمة لمجالات: التعليم، والبحث العلمي، والمكتبات ومراكز المعرفة، والصحة، والخدمات الحكومية؛ وتأمين التواصل المعلوماتي حول العالم، مع الاهتمام بالمناطق النائية؛ ودعم خدمات الإذاعة والتلفزيون، إضافة إلى تطوير مناهج التعليم والمحتوى اللغوي المرتبطة بتقنيات المعلومات والاتصالات. وقد شهد العمل على تحقيق أهداف قمة الألفية وأهداف قمة مجتمع المعلومات، مستويات مرتفعة من النجاح.
ونأتي إلى الحدث الثاني، ويرتبط "بأهداف التنمية المستدامة SDG" التي صدرت عن قادة دول العالم عام 2015 كي يتم العمل على تحقيقها بحلول عام 2030. وقد بلغ عدد هذه الأهداف "17 هدفا" شملت ثلاثة أهداف ترتبط "باحتياجات الإنسان" الأساسية، هي القضاء على كل من الفقر، والجوع، والاهتمام بالصحة. كما تضمنت ستة أهداف تتعلق "بالبيئة"، بما في ذلك قضايا المياه، والطاقة، والمدن والمجتمعات، والطقس، والحياة المائية، والحياة البرية. واحتوت كذلك على ثلاثة أهداف تختص "بتفعيل نشاطات الإنسان" عبر التعليم، والعمل المناسب، والصناعة والابتكار والبنية الأساسية، وشملت أيضا أربعة أهداف ترتبط "بالعدالة والمسؤولية" وتهتم بالإنتاج والاستهلاك المسؤول، والسلام والعدل والمؤسسات، والمساواة بين الجنسين، والحد من عدم المساواة. وهناك أخيرا هدف يدعو إلى الشراكة الدولية في تحقيق الأهداف. وقد طرحت دراسة حول "التحول الرقمي"، صادرة في ألمانيا عام 2017 عن "بلدان مجموعة العشرين G20"، دور تقنيات المعلومات والاتصالات في الإسهام في تحقيق كل من أهداف التنمية المستدامة، مؤكدة أهمية هذا الدور.
خلاصة القول، هي أن"التحول الرقمي هو ذراع رئيسة فاعلة من أذرعة التنمية المستدامة"، وهو مستمر ومتجدد مع التقدم المتواصل، بل والمتسارع، الذي تشهده التقنية وتطبيقاتها. ويلقى هذا التحول اهتماما كبيرا على مستوى العالم. وعلى مستوى المملكة، هناك لجنة خاصة تتولى مسؤولية هذا التحول. ولعله لا بد من الإشارة هنا إلى ثلاثة أمور رئيسة تستحق أن تكون جزءا من سياسات التحول. أولها، أن هناك عوائق إدارية وبشرية للتحول ينبغي الاهتمام بها؛ وثانيها، أن تقنية التحول وسيلة محايدة قد لا تستخدم الاستخدام الإيجابي المنشود، حتى لو استخدمت إيجابيا فقد لا يكون ذلك بالكفاءة والجودة المطلوبتين؛ وثالثها، أن التحول سيؤدي إلى وجود أكبر في "الفضاء السيبراني" وتعرض أكبر لأخطاره.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي