Author

الثقافة والفلسفة .. مراجعات واجبة

|
هل تختلف الثقافة عن الفلسفة؟ وهل يوجد بينهما علاقة؟ وما طبيعة هذه العلاقة، أي أيهما يؤثر في الآخر؟ أسئلة كثيرة بشأنهما، كثيرا ما تطرح من قبل المهتمين فيهما؛ نظرا لتأثيرهما في المجالات المتعددة في أي مجتمع من المجتمعات، فأثرهما يبرز في الاقتصاد، والتربية، والأنظمة، والإعلام، وغيرها، لذا يكون الفهم العميق لهما أمرا حتميا لا بد منه؛ إذا ما أراد المجتمع أن يصحح أوضاعه الحياتية العامة، أو في مجال يعاني قصورا، أو خللا ما. ومن المؤكد أن الفلسفة تمثل تصورا عاما يعطي خطوطا عامة ومبادئ؛ في حين أن الثقافة أشمل، ونجد آثارها، وتفاصيلها تتغلغل في مجالات عدة، كاللباس، والأكل، والعادات والتقاليد، والعلاقات الأسرية، والاجتماعية، وفي نمط الحياة، وإيقاعها اليومي. تاريخيا، تبنت دول فلسفات حياتية جعلت منها أساسا بنت عليه شؤون حياتها، فالفلسفة الاشتراكية تم تبنيها في الاتحاد السوفييتي مظلة سياسية واجتماعية تسير وفقها الأنشطة كافة، ما رسم ملامح المجتمع السوفييتي، وطريقة تفكير أبنائه في هذه الفلسفة، كرفض الفردية، وتأكيد النزعة الاجتماعية بدلا منها، كما في المواصلات العامة، والمزارع، والمصانع التي تحولت إلى ملكية حكومية، ولعل اللون الأحمر الذي يظهر بشكل واضح كشعار أساسي لفلسفة النظام الاشتراكي، ليس في شقها الاقتصادي فقط، بل أصبح اللون الأحمر ملمحا ثقافيا يظهر على اللباس، وفي الاستعراضات العسكرية، ومع أن من مبادئها مفهوم المساواة، وصراع الطبقات؛ للقضاء على التميز الطبقي، إلا أن إهمالها للقدرات، والرغبات، والاحتياجات الفردية ترتب عليه بطء، وعدم مرونة التفكير على مستوى الأفراد، والمؤسسات، حتى أصبح المجتمع عاجزا وغير قادر على الحراك، ومسايرة التغيرات العالمية؛ ما أدى إلى تراكم المشكلات الاقتصادية، والاجتماعية إلى أن وصلت إلى مرحلة المرض المزمن ليسقط الاتحاد السوفياتي، ويتفكك؛ لما أحدثته الفلسفة الاشتراكية من وهن، وضعف يستحيل معهما إصلاح الوضع. الفلسفة الرأسمالية بمبادئها المتمثلة في الحرية، والنفعية، والتنافس، والقيمة الفردية لها حضورها القوي في الوقت الراهن على الصعيد العالمي، وفرضت هيمنتها، ليس فقط بسبب مبادئها التي توجد مساحة واسعة للإبداع، والتفكير الحر المتحرر من القيود المعيقة، بل لآليات العمل التي تسمح بها، ما مكن دولها من إنتاج اقتصادي، وتقني، وفكري، وخدمي متميز؛ وذلك بفعل المرونة في الحركة، والتخلي عن البيروقراطية القاتلة للأداء، ولذا نجد سمة التجديد واضحة في ظهور شركات، واختفاء أخرى، لأن الأساس تنوع، وجودة المنتج. ومن الأمثلة البارزة، القنوات الإعلامية المتنافسة في الفضاء العالمي، حتى أصبح المشاهد يتنقل بينها؛ بحثا عن الأفضل، والأكثر دقة، وموضوعية، وشفافية، في حين ينصرف عن تلك المكبلة بقيود البيروقراطية، والثقافة الجامدة. هل تنتج الثقافة فلسفة، أو فلسفات عمل؟ نعم، على حسب طبيعة الثقافة، من حيث حيويتها، وقدرتها على مجاراة العصر، ومتطلباته، أو ضعفها، وانغلاقها، ورفضها، أو عجزها عن التجديد من داخلها، أو خوفها من التجديد، والانفتاح، وهذا من شأنه إعاقة اتخاذ القرار المناسب، وفي الوقت المناسب، ومن ثم ضعف آليات وأدوات الإنتاج؛ لأن فلسفة العمل تكتسب خصائصها من ثقافة المجتمع لتكون النتيجة قوة أو ضعف القطاع. فعلى سبيل المثال لا الحصر، المركزية في الاقتصاد، أو التعليم، أو الإعلام، تعيق التجديد، ومسايرة العصر، فالمركزية، وما يترتب عليها من بيروقراطية تطيل الوقت، وتحدث التردد، وعدم المبادرة، وتبرز هذه المشكلة في التعليم، والإعلام، فالتعليم الأهلي أكثر مرونة من التعليم الحكومي، خاصة في الأمور المالية التي لا تتوافر في التعليم الحكومي الذي يمر فيه الموضوع عبر محطات عدة، تأخذ وقتا وتراعي شروطا وتحفظات عدة. الإعلام أحد المجالات التي تتأثر في فلسفة الإدارة، سواء المركزية واللامركزية، فالدول التي يتولى إعلامها شركات متحررة من البيروقراطية الحكومية يحقق نجاحا بارزا؛ لما يتمتع به من مرونة، وتحرك سريع وراء الحدث، أو الخبر أينما كان، مع توفير الإمكانات المادية والبشرية، والبحث عمن يحلل الموضوع من وجهات نظر مختلفة، وبخلفيات متنوعة في مشاربها، ومدارس تفكيرها، ما يثري النقاش، ويوسع المدارك، ويوفر الفرصة للنظر إلى الموضوع من زوايا متعددة، بدل تحديد مسار تفكيره وفق رؤية واحدة ضيقة. فهل نراجع الثقافة العامة، والثقافة السياسية، التي ترسم وتحدد فلسفات العمل بما يعتريها من معوقات تظهرنا في مواقع لا تتناسب مع إمكاناتنا المادية والبشرية والمعنوية؟!
إنشرها