الديون الحكومية واقتصاد المعرفة

في الأغلب الأعم، يتفوق المؤرخون على الاقتصاديين في رواية القصص. وأسلوب الكتابة في كتاب "حطام" ليس استثناء، إذ يقدم تووز سردا عاطفيا للعقد الماضي الذي سيجد فيه عديد من القراء - تماما كمثل المشاهدين الذين يتابعون قناة إخبارية وحيدة منحازة - إعادة تأكيد. ولكن عندما يتعلق الأمر بمثل هذا الكتاب السميك، كان البحث والتحليل الاقتصادي شديد السطحية غالبا. فقد استغرق المؤرخون الاقتصاديون سبعة عقود من الزمن لفك طلاسم الكساد العظيم. ومن المأمول أن نفترض أن المؤرخين سيجدون في جعبتهم الكثير الذي يمكنهم أن ينبئونا به عن أزمة 2008 المالية في السنوات والعقود القادمة.
الواقع أننا نستطيع أن نجد مثالا ساطعا لفوائد البعد التاريخي في عمل الخبير الاقتصادي سيباستيان إدواردز في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس بعنوان "التقصير الأمريكي" الذي يعد استكشافا حاد البصيرة لحدث لم يذكر كثيرا في تاريخ الولايات المتحدة الاقتصادي.
إنه لأمر مذهل أن نتنبه إلى ذلك العدد الهائل من المرات التي نسمع صانعي الرأي الاقتصادي البارزين، يزعمون بسذاجة أن الاقتصادات المتقدمة لا تتخلف أبدا عن سداد ديونها الحكومية. وهذا التصريح، في أفضل تقدير، مبالغة مضللة للغاية. فعلى مدار تاريخ كل منها، تخلفت كل اقتصادات اليوم المتقدمة تقريبا عن سداد ديونها صراحة في وقت أو آخر، وفي بعض الحالات بشكل متكرر.
كي أكون واضحا: لا أعني أن الديون الحكومية أزيلت بفعل التضخم المرتفع فحسب. فقد فشلت الحكومات ببساطة في الوفاء بالمدفوعات المجدولة. على سبيل المثال، تخلفت كل من ألمانيا واليابان عن سداد ديونها عند بداية الحرب العالمية الثانية؛ كما تخلفت إنجلترا، وفرنسا، وعديد من الدول الأخرى عن سداد القروض المستحقة عليها لمصلحة الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الأولى، ومرة أخرى خلال عملية إعادة إعمار أوروبا في وقت لاحق.
أما عن الولايات المتحدة، فيزعم إدواردز على نحو مقنع أن القرار الذي اتخذه الرئيس فرانكلين روزفلت في عام 1933 بإلغاء "الفقرات التي تتحدث عن الذهب" في كل عقود الدين، كان بمنزلة امتناع عن سداد الديون. فمن خلال إبطال شرط سداد الدين بالذهب أو "ما يعادل الذهب"، مهد روزفلت الطريق لخفض قيمة الدولار بشكل حاد. وغالبا ما يلقى هذا الحدث التاريخي الكبير قدرا ضئيلا من الاهتمام في التأريخ لفترة معيار الذهب. وتتمثل الاستثناءات في دراسات أجراها اقتصاديون مثل باري آيكنجرين، وكريستينا رومر، وبن برنانكي رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي السابق، الذين زعموا أن انسحاب روزفلت من معيار الذهب ربما كان السياسة الأكثر فعالية في إخراج الولايات المتحدة من الكساد العظيم. لكنهم يتعاملون مع هذا الأمر باعتباره مجرد قرار نقدي، في حين أنه كان في واقع الأمر بمنزلة تخلف عن سداد الدين أيضا - وربما لم يحظ بما يستحق من دراسة وتقدير، لأن التاريخ يكتبه المنتصرون.
سمح خفض قيمة الدولار مقابل الذهب بنسبة 40 في المائة لوزارة الخزانة الأمريكية والاحتياطي الفيدرالي بضخ الأموال في شرايين الاقتصاد، وتوفير الإغاثة المطلوبة بشدة من الضغوط الانكماشية القوية المستمرة التي أحدثها انهيار مصرفي واسع النطاق، ولو لم تبطل الفقرات الخاصة بالذهب في كل عقود الدين، فربما لم يكن هذا التدخل يصبح في حكم الممكن. ولو لم يسمح لروزفلت بخفض قيمة الدين، فضلا عن العملة، فإن مستويات الدين المرتفعة كانت ستجعل من الأصعب كثيرا ملاحقة سياسة التحفيز المالي. وفي الأرجح، كانت السوق ستفرض التقشف على الولايات المتحدة. وفي النهاية، هذا هو ما يحدث للأسواق الناشئة حينما تعاني خفض قيمة العملة بشكل كبير ولا يصبح بوسعها سداد أقساط ديونها المقومة بالدولار واليورو، كما هي حال تركيا والأرجنتين اليوم. قبل ظهور كتاب إدواردز، كان أغلب أهل الاقتصاد يبدون قدرا ضئيلا من الاهتمام بتفاصيل تخلف الولايات المتحدة عن سداد ديونها في ثلاثينيات القرن الـ20، على افتراض أن القيام بذلك كان واجبا ببساطة. وقد نوقش هذا الموضوع بإيجاز في كتاب ميلتون فريدمان وآنا جاكسون شوارتز الرصين الذي نشر في عام 1963 بعنوان "تاريخ الولايات المتحدة النقدي". في عمله الأدبي العظيم الصادر في عام 2010 الذي تناول فيه تاريخ الاحتياطي الفيدرالي لا يفرد ألان هـ. ملتزر رجل الاقتصاد، سوى مساحة متواضعة لهذا الحدث. بالطبع، قمت أنا وراينهارت بالتأريخ لهذا التخلف عن السداد، وبيانات الاقتصاد الكلي المحيطة به في كتاب "هذه المرة مختلفة". ولكن في دراسة لمئات الأزمات المالية وحالات التخلف عن سداد الديون، لم نتمكن من القيام بذلك النوع من الغوص العميق الذي قام به إدواردز في كتاب "التقصير الأمريكي".

خاص بـ"الاقتصادية"
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2018

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي