بروكسل تطمس نموذج سويسرا .. لإبطال مفعول «بريكست»

بروكسل تطمس نموذج سويسرا .. لإبطال مفعول «بريكست»
بروكسل تطمس نموذج سويسرا .. لإبطال مفعول «بريكست»
بروكسل تطمس نموذج سويسرا .. لإبطال مفعول «بريكست»

سويسرا: "ليست نموذجًا". لا يمكن أن يكون النص في العرض التقديمي في كانون الثاني (يناير) المقبل بين مفاوضي "بريكست" أكثر وضوحًا من ذلك. كان الاتحاد الأوروبي يقول للمملكة المتحدة: لا تسعوا إلى استلهام وضع سويسرا بالنسبة إلى علاقاتكم معنا ما بعد الخروج، فنحن لن نكرر تلك الحماقة.
كانت الحاشية مجاملة غير مقصودة نحو سويسرا، البلد الغني في جبال الألب الذي يبلغ عدد سكانه 8.5 مليون نسمة.
لقد رفضت سويسرا منذ مدة طويلة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وهو كتلة تجارية يبلغ حجم سكانها 500 مليون شخص على أعتابها.
ومع ذلك، تمكنت بطريقة ما من خلال الدهاء والصبر ولمسة من العناد، من بناء شبكة تضم أكثر من 120 صفقة ثنائية تمنحها كثيرا من فوائد العضوية.
ومع ذلك، وحيث إن "بريكست" يضطر الاتحاد الأوروبي الآن إلى إعادة النظر في علاقته مع البلدان المجاورة التي ليست جزءًا من الكتلة، أصبحت سويسرا مرشحا رئيسا لنوع من ترتيب الأوضاع الخالي من العواطف.
بدأت المفاوضات حول صفقة جديدة معها منذ أربع سنوات، ويبدو الاتحاد الأوروبي الآن أكثر إصرارًا من أي وقت مضى على فرض إرادته على سويسرا الصغيرة – خصوصا لتكون درسا للمملكة المتحدة.
علاوة على ذلك، يعتقد الاتحاد الأوروبي أنه يمتلك طريقة حاذقة، لكنها فعالة لزيادة الضغط. بعد شعوره بالإحباط من التهرب السويسري العام الماضي، فإن جان كلود يونكر، رئيس المفوضية الأوروبية، فقدَ صبره في النهاية، وطلب من فريقه "العثور له على عصا" لمن عصى، بحسب أحد كبار الدبلوماسيين الأوروبيين. "وقد فعلوا ذلك".
من خلال توسيع نطاق وصول أسواق الاتحاد الأوروبي لمتداولي الأسهم السويسريين - مع تحديده بشكل واضح لمدة عام واحد فحسب - تمكنت المفوضية من صنع نفوذ من النوع الذي يمكن أن يؤخذ على محمل الجد في برن.
يحذر أحد التنفيذيين في زيورخ من أن وقوع خلاف يفجر غضب بروكسل بشأن تداول الأسهم سيكون بمنزلة "انتزاع القلب من جسم النظام المالي السويسري".
ومع ذلك، يتعين على الحكومة السويسرية التحرك بحذر من خلال مناخ محلي معقد.
في حين يرغب الاتحاد الأوروبي في أن تكتمل المحادثات بنهاية تشرين الأول (أكتوبر) المقبل، إلا أن سويسرا ستعقد سلسلة من الاستفتاءات تبدأ في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، التي يمكن أن تؤثر بشكل عجيب في علاقتها مع بروكسل.
يقوم حزب "الشعب السويسري" القومي المتطرف - أقوى حركة سياسية في البلاد - بحملة من أجل الفوز في الاستفتاءات حول عودة الصلاحيات إلى برن.
وحيث إن بعض أجزاء التفاوض عالقة، يواجه الاتحاد الأوروبي معضلة سويسرية دائمة لديه: هل هذا الصدع مع هذا الجار صعب المراس يستحق فعلاً هذا الجهد؟
وكما يقول سيني ناجي، زميل أعلى للسياسة في منتدى السياسة الخارجية السويسري فوروس: "ليس هذا هو الوقت المناسب لبدء حرب تجارية أخرى، حتى لو كانت على نطاق أصغر من حرب الولايات المتحدة والصين.
ويبدو أن "الاتحاد الأوروبي" في حالة مزاجية للقيام بذلك. إذا نظرت إلى كامل الجدل بشأن "بريكست"، فإنك ستجد أنهم في حالة مزاجية لا تقبل المساومة".
حين ننظر إلى الأمور الآن بعد فترة زمنية عليها، نجد أن سويسرا أجْرت المفاوضات بشكل متمرس مع الاتحاد الأوروبي، وكانت النتيجة هي ترتيبات تجمع بين الاستقلال السيادي والوصول إلى الأسواق بطريقة يحب كثير من السياسيين البريطانيين محاكاتها، لو كان الخيار متاحا.
في عام 1992، صوت السويسريون في استفتاء ضد الانضمام إلى المنطقة الاقتصادية الأوروبية، الذي كان يمكن أن يكون نقطة انطلاق لعضوية الاتحاد الأوروبي.
ومع ذلك، ظلت حكومة سويسرا ملتزمة بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي - وهو موقف لم تتراجع عنه رسمياً إلا في تموز (يوليو) 2016.
وقد قبلت سويسرا أيضاً مبدأ الاتحاد الأوروبي المتين المتمثل في حرية حركة الناس (سويسرا هي أيضاً جزء من منطقة شنيجن الخالية من جوازات السفر).
نظراً لموقع سويسرا الجغرافي على الطرق التجارية من شمال أوروبا إلى جنوبها، كان الاتحاد الأوروبي سعيداً بمنح شروط مواتية للوصول إلى الأسواق، مع السماح لبرن في الوقت نفسه، بإبرام اتفاقيات التجارة الدولية الخاصة بها، كما فعل مع الصين.
لدى السويسريين تاريخ بأنهم مفاوضون فعالون، يعود تاريخهم على الأقل إلى فترة انعقاد مؤتمر فيينا في الفترة من 1814 إلى 1815 عندما وافقت بلدان أوروبا رسمياً على وضع سويسرا المحايد، كما يقول كلايف تشيرتش، الأستاذ الفخري للدراسات الأوروبية في جامعة كنت في المملكة المتحدة.
وفي الآونة الأخيرة، ساعد حجم هذه الدولة الصغير على إبقائها دون مستوى الرادار السياسي. كما يقول تشيرتش: "نعم، هي غنية ومزدهرة ومهمة اقتصاديًا، لكن ليست قوة عظمى أخرى".
كما برع السويسريون في "إضفاء الطابع الذاتي الأوروبي على أنفسهم"، من خلال الانضمام إلى المؤسسات الأوروبية واعتماد سياسات الاتحاد الأوروبي.
ومع ذلك، فإن هذه العلاقة لم تكن من دون نقاط اشتعال. في أعقاب الأزمة المالية العالمية عام 2008، وحيث كانت الحكومات الغربية التي تعاني ضائقة نقدية مستميتة لتعزيز عائدات الضرائب، تم الكشف عن المساعدة الواسعة التي قدمتها المصارف السويسرية للعملاء الأغنياء الساعين للتهرب من السلطات الضريبية.
بحلول عام 2013، أدركت برن أنه يتعين عليها تغيير أسلوبها والاتفاق على صفقات واسعة النطاق بشأن التبادل التلقائي للمعلومات.
أظهر السويسريون تحديهم مرة أخرى عام 2014، عندما صوتوا في استفتاء للحد من الهجرة من الاتحاد الأوروبي - خلافا لمبدأ حرية الحركة. ومع ذلك، تمكنت برن من تجنب مواجهة مع الاتحاد الأوروبي عن طريق التملص من تنفيذ التصويت؛ إذ كانت الإجراءات الرامية لتشجيع التوظيف المحلي ضعيفة للغاية، بحيث لم يكن لدى بروكسل سبب للاعتراض.
ومع ذلك، فإن انتخابات 2014 دفعت بروكسل إلى الدفع من أجل إصلاح طريقة تعاملها مع سويسرا. طموحها هو التوصل إلى اتفاق "الإطار المؤسسي" الذي بموجبه تتغير القوانين السويسرية تماشيا مع تشريعات الاتحاد الأوروبي، في حين أن لجنة تحكيم من شأنها أن تحل النزاعات بين سويسرا والاتحاد الأوروبي، وبشكل حاسم، يشتمل ذلك على دور لمحكمة العدل الأوروبية.
شجع استفتاء خروج بريطانيا عام 2016 الاتحاد الأوروبي ليكون أكثر تصميماً في مفاوضاته مع السويسريين.
يبدو أن بروكسل لديها اليد العليا. بدون اتفاق، يمكن للاتحاد الأوروبي تجميد الاتصالات مع برن. يمكن لهذا أن يؤذي قدرة العلماء السويسريين على الاستفادة من برامج الأبحاث في الاتحاد الأوروبي.
ومن شأنه أيضا أن يطيح بآمال المصارف السويسرية في صفقة خدمات مالية، من شأنها أن تتيح لها حرية أكبر في الوصول إلى سوق الاتحاد الأوروبي الكبيرة.
من الناحية النظرية، يمكن للاتحاد الأوروبي أن يهدد بإلغاء الصفقات المتفق عليها من قبل؛ وهذا من شأنه أن يسبب صدمة كبيرة للاقتصاد السويسري والشركات السويسرية متعددة الجنسيات، مثل شركتي الأدوية نوفارتيس وروش.
التهديد الأكثر مباشرة يتعلق بأسواق الأسهم. في كانون الأول (ديسمبر) الماضي، المفوضية الأوروبية فاجأت برن، وأعلنت أن وصول تجار الأسهم الأوروبيين والسويسريين إلى سوق بعضهم بعضا سيمتد 12 شهراً فقط.
من شأن اتخاذ قرار في الأشهر القليلة المقبلة بحظر سويسرا من تداولات الأسهم في الاتحاد الأوروبي، أن يشكل ضربة كبيرة لطموحات سويسرا كمركز مالي عالمي.
يقول يوهانس هان، مفوض الاتحاد الأوروبي المشارك في المحادثات، إنه من دون "اتفاق إطاري" شامل، فإنه "لا يمكن أن يتخيل" تمديد القدرة على الاستفادة من سوق البورصة.
ومع ذلك، كان التقدم في المفاوضات بطيئًا بشكل مؤلم. يعتقد السويسريون أن بيدهم بطاقات قوية، مشيرين إلى أن الاتحاد الأوروبي يستفيد من نجاح سويسرا الاقتصادي. صحيح أنها صغيرة في الحجم، لكن سويسرا هي ثالث أكبر شريك تجاري للاتحاد الأوروبي، بعد الولايات المتحدة والصين.
نحو 17 في المائة من سكان سويسرا هم من الكتلة، ويسافر نحو 320 ألف عامل يومياً إلى سويسرا من البلدان المجاورة بما في ذلك ألمانيا وإيطاليا وفرنسا. في العام الماضي، كان لدى الاتحاد الأوروبي فائض في تجارة السلع مع سويسرا يبلغ نحو 40 مليار يورو.
يقول مايكل أمبول، وهو دبلوماسي سابق رفيع المستوى وأستاذ في المعهد الفيدرالي السويسري للتكنولوجيا: "في بروكسل، يسمع المرء أحياناً أن النظام السويسري (لصفقات الاتحاد الأوروبي) كان خطأً - ليس خطأً فكرياً، بل خطأ لأنهم أعطونا إياه".
"بالطبع، لم يكن هذا خطأ. كل ما في الأمر أن هذه هي الطريقة التي يختار بها بعض الناس النظر إلى الأمر. ليس صحيحًا أننا نكسب وهم يخسرون. فهم أيضا يفوزون - انظر إلى فائض التصدير (للاتحاد الأوروبي) وعدد مواطني الاتحاد الأوروبي الذين يعيشون ويعملون هنا. بشكل عام، هي صفقة متوازنة بشكل جيد".
كما وضعت برن خطط طوارئ في حال سحب بروكسل "التكافؤ" من أجل البورصة السويسرية: ستمنع بلدان الاتحاد الأوروبي من التعامل في أسهم الشركات السويسرية، وهو ما يعني أن التداول يجب أن يتم في البورصة السويسرية، ما يوفر تعويضا لحركة الإيرادات.
وُضِعت معالم بعض أجزاء الإطار لعمل مؤسسي جديد - على سبيل المثال من أجل لجنة تحكيم مشتركة. في يوم الجمعة الماضي، خرج وزير الخارجية السويسري إيجنازيو كاسيس من أحدث نقاش حكومي حول علاقات الاتحاد الأوروبي في برن، ليعلن أن سويسرا لا تزال مستعدة للمضي قدما في المحادثات. وقال: "إذا نجح ذلك، فإنه سينجح، وإذا لم ينجح، فإنه لن ينجح".
وللمساعدة على تحسين المزاج، قال كاسيس إن سويسرا وافقت على دفع 1.3 مليار فرنك سويسري (1.1 مليار يورو) على مدى عشر سنوات، لمصلحة صناديق الاتحاد الأوروبي، التي تعزز المناطق الأكثر ضعفاً من الناحية الاقتصادية، وتعالج قضايا الهجرة - على الرغم من أنه يمكن حتى الآن حجز المدفوعات، إذا لم يتم تمديد المعاملة المتكافئة في سوق الأسهم.
ومع ذلك، ظهرت عقبات كبيرة. خلال الصيف، عبرت النقابات السويسرية عن معارضتها الشديدة لأي تخفيف للقواعد الوطنية التي تحمي الأجور المرتفعة، أو ما يسمى "إجراءات الالتفاف"، التي جعلت صفقات الوصول إلى الأسواق مقبولة لدى الناخبين السويسريين.
وتتطلب هذه الإجراءات من شركات الاتحاد الأوروبي التسجيل قبل ثمانية أيام من إرسال العمال إلى سويسرا، وإخضاع أنفسهم لضوابط متكررة، وإلا فإنهم يخاطرون بالتعرض للغرامات.
يبرر قادة النقابات هذه الإجراءات من خلال الإشارة إلى ارتفاع تكاليف المعيشة في سويسرا، لكن بلدان الاتحاد الأوروبي المجاورة تعتبر القواعد السويسرية عقوبة على الشركات الأجنبية. يقول ناجي: "إنهم يرون هذه الإجراءات على أنها حمائية".
الذي يطغى على السياسة السويسرية هو كريستوف بلوخر، القائد المخضرم لحزب الشعب السويسري - من بين أطول الحركات القومية المناهضة للتكامل الأوروبي في أوروبا - الذي قاد الحملة ضد عضوية المنطقة الاقتصادية الأوروبية عام 1992، ويقاوم اتفاقية "إطار مؤسسي" جديدة مع بروكسل.
يعني النظام السياسي في سويسرا، القائم على الاستفتاءات المتكررة، أنه لا يمكن التغلب على معارضة حزب الشعب السويسري إلا عندما يكون هناك توافق في الآراء حول بقية الطيف، من حزب "الديمقراطيين الاجتماعيين" اليساري إلى الليبراليين من يمين الوسط. كثير من التنازلات التي قدمتها برن بشأن التدابير المرافقة ستعرض للخطر الدعم اليساري لصفقة مع الاتحاد الأوروبي.
وحتى مع استمرار المفاوضات، يستخدم حزب الشعب السويسري نظام الاستفتاء للدفع في اتجاه موقف أكثر صرامة ضد الاتحاد الأوروبي. في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، سيصوت السويسريون على اقتراح يؤكد هيمنة الدستور السويسري على المعاهدات الدولية.
إذا تم إقراره، فإنه سيمنع حالات الفوضى مثل التي حصلت بعد تصويت 2014 على الهجرة - وبالتالي تهديد العلاقات مع بروكسل.
كما يحث حزب الشعب السويسري على إجراء استفتاء حول إلغاء الاتفاق على حرية تنقل الناس. وهذا من شأنه أن يشكك في الأساس الكامل لعقودها الثنائية.
الرأي المتفق عليه في سويسرا في الوقت الحالي هو أن حزب الشعب السويسري لن ينجح في أي من الاستفتاءين. يجادل البعض في برن أنه بالنظر إلى حالة اللبس، سيكون من المنطقي انتظار نتائجهما قبل التوصل إلى اتفاق مع بروكسل.
هل ستكون بروكسل مستعدة للانتظار كل هذا الوقت؟ في الوقت الحالي تبذل بروكسل قصارى جهدها لتبين أنها لن تنتظر. وصف الدبلوماسيون الأوروبيون الصفقة بأنها عرض أخير - وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي على أنه عملية لن تؤدي إلا إلى تفاقم الوضع في سويسرا.
رُفضت طلبات سويسرية لإبرام صفقة جزئية - باستثناء تدابير الالتفاف المثيرة للجدل - في بروكسل باعتبارها "سلاماتاكتيك"؛ أي تقطيع السلامي الذي يعطيك قطعة مما تريد في كل مرة.
في مقابلة مع التلفزيون السويسري الشهر الماضي، قال يونكر إنه لا يوافق على "تقطيع السلامي"؛ لأن "هناك من يقطع وهناك من يأكل السجق".
وأضاف في إشارة إلى أنه سيتم تعيين رئيس جديد للمفوضية نهاية العام المقبل: "قلت لهم تفاوضوا معي، وتعاملوا معي؛ لأنه خلال سنة لن أكون هنا وسترون".

الأكثر قراءة