Author

لبناء استراتيجية «شخصية» في الخلافات والصراع «1»

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى

الصراع أو "الخلاف" Conflict في العمل وفي غيره من صور الحياة - أمر لا مفر منه تقريبا، لكن من المهم أن أضع خطا تحت كلمة الصراع؛ لأنها تحمل معنى عنيفا جدا عند كثير من الناس، رغم أن الكلمة -في حد ذاتها- لا تحمل هذا العنف في مضمونها، فنحن في صراع أو خلاف مع كل أشكال الحياة، صراع ليس بالضرورة أن يكون عنيفا، بل قد يكون فقط -وفي أحيان كثيرة- في شكل من سيعبر أولا. لهذا فإنك عندما تتحدث مع أي شخص يواجه تحديات معينة في حياته "مهما بدت سهلة وبسيطة" فإن ذلك يمثل نوعا من الصراع أو الخلاف، فإنه يبادر فورا إلى إنكار ذلك، وهو صادق، فالمسألة التي يواجهها ليست بذلك الشكل العنيف، كما توحي به كلمة الصراع أو الخلاف. ومع الأسف، لا يوجد لدي مفهوم آخر يوضح ما نواجهه يوميا سوى هاتين الكلمتين، على أن كلمة مثل "مباراة" Game تعد بشكل جيد، لكنها تحدث انطباعا مختلفا لدى القارئ، ويذهب ذهنه نحو الألعاب فقط، ورغم أن الألعاب تمثل نوعا من الصراع، لكنها توحي بالرفاهية فقط، والصراع الذي نعانيه أحيانا هو أصعب من مجرد رفاهية، بل مستقبل وحالة نفسية. في حياتنا الشخصية نواجه الصراع أو الخلاف حتما، يجب علينا ألا ننكر هذا، الإنكار مشكلة في حد ذاته، إنكار الصراع سيؤدي بك إلى خيارات سيئة جدا، كان يمكن تجنبها بسهولة. لا بد من الاعتراف بحقيقة الصراع والخلاف في حياتنا بكل تنوعها؛ حتى نتجنب خيارات سيئة نقع فيها باستمرار، وكما قلت، ليس بالضرورة أن يكون الصراع عنيفا، بل قد يكون سريعا جدا وهادئا، كأن تعبر أولا عند إشارة المرور، أو أن تقبل زيارة عائلية وأنت منشغل جدا. الصراع والخلاف حتمي، طالما نحن نعيش في هذه الحياة، البعض - لأنه ينكر الصراع ولا يقبل بفكرته - دائما يتعرض للمخاطر، ومنا من يفشل في الحياة تماما بسبب هذا الإنكار. دائما ما يكون الصراع والخلاف حول الأهداف والموارد المتاحة لكل واحد منا، هنا تكمن المشكلة الثانية في حياة معظم الناس، وهي عدم قدرة بعضنا على تحديد أهدافه بشكل دقيق يوميا، بل المشكلة أعمق من حيث عدم القدرة على ترتيب هذه الأهداف بشكل صحيح. وهذا سيؤدي بنا إلى فشل آخر، وهو استنزاف الموارد المتاحة لنا في إنجاز أهداف الآخرين أو أهداف غير مناسبة لنا. والموارد تكون محدودة دائما وتحت أي ظرف، والموارد هنا ليست بالضرورة أن تكون مالا فقط، بل يمكن أن تكون وقتا وصحة. إذا استطعنا أن نتجاوز هاتين المشكلتين "عدم إنكار الصراع أو الخلاف، ومعرفة أهدافنا بشكل دقيق، وترتيبها بشكل صحيح"، فسنصبح قادرين على مواجهة تحديات الحياة بكل ثقة، فقط نحتاج إلى التدريب البسيط على كيفية التعامل مع الخلاف والصراع مهما كان شكله ومكانه وحجمه، وهذا يخفف الضغوط علينا بشكل لا يمكن تصوره، ذلك أن كثيرا من مشاكلنا وهمومنا وخسائرنا الضخمة كان يمكن تجنبها بكلمة "لا". الخلاف والصراع -كما قلت- يكونان دائما على أهداف وموارد، وهذا ارتباط وليس خيارا. كل شخص لديه هدف يريد تحقيقه بموارد متاحة له أو عند غيره، وتتعارض أهدافنا مع غيرنا في لحظة معينة، هنا تبدأ مباريات الصراع، من منا يجب أن يتحقق هدفه أولا، ومن منا ستتم التضحية بموارده لتحقيق هدف الآخر، "هناك كثير من العقود التي نوقعها أو نتورط فيها بناء على هذا"، وكما قلت قد يكون الصراع معقدا وقد يكون بسيطا، مثل توقيع عقد تمويل ضخم، أو الوقوف أمام إشارة مرور، ويوميا وفي هذه اللحظة التي تقرأ فيها هذا المقال هناك صراع ما، لنأخذ إشارة مرور مثالا: سيارتان تقفان أمام الإشارة، إحداهما تريد الانعطاف إلى اليمين، والأخرى تريد السير إلى الأمام، لا صراع إذا كان الطريق سالكا لكل منهما، بمعنى أن كل سائق منهما يستخدم موارده لتحقيق هدف العبور نحو الجهة التي يريد، ولا يحتاج إلى موارد الآخر. لكن إذا تقاطع الطريق فإن على أحدهما "حتما" أن يقف، وهذا يعني أن يستهلك وقودا ووقتا ومساحة، سينجح الآخر في الاستفادة منها، من سيعبر أولا هو الذي نجح في المباراة، ويخسر من يقف. هنا يظهر مفهوم الردع في الصراع "المباراة"، فالفوز بمباراة من هذا النوع والمرور قبل الآخر يتطلب ردعا، والردع يحتاج إلى التهديد، والردع هو "إقناع" الطرف الآخر بأن امتناعه عن العبور يعد في مصلحته، وهذا يعتمد على قوة الإقناع. والإقناع في المباريات يتضمن أن تصل معلومة "التهديد" بأن التصرف بالطريقة غير المرغوبة سيتسبب في عقوبة ضياع مورد وهدف. هنا تظهر نظرية المباريات Game Theory، وهنا يجب أن يكون لتهديدك مصداقية، فالتهديدات التي لا يستطيع تنفيذها أو لا يصل معناها إلى الآخر لن تؤثر أبدا، لهذا يجب أن تصل الرسائل إلى الطرف الآخر بالذات واضحة وقوية جدا بأن التهديد سيتم تنفيذه بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى. إذن، سيعبر الطريق والتقاطع من يكون تهديده واضحا وصريحا ورادعا، والآخر يصدقه ويرى أن الخسارة من المباراة أكيدة، ولهذا يقرر اختيار الخسارة الأقل ضررا، وهي العبور بدلا من وقوع التهديد وخسارة ما هو أكبر، ويصل إلى تلف السيارة، وهذا معناه أن تهديدا بأقل أو بما يعادل خسارة هدف المباراة "العبور" لن يجدي أبدا. عندما تكون في مباراة "صراع" عند مستوى أكبر من مجرد إشارة مرور، بل في العمل مثلا، والموضوع يصل إلى الترقية في الوظيفة، أو الفوز بإجازة مستحقة في وقت ذروة العمل، أو مكافأة تأخرت، هنا يجب أن تكون على دراية كبيرة بالمباراة والصراع، وإلا فستخسر حتما، قد تصل الخسارة إلى الوظيفة نفسها، وهذا ما يحدث كثيرا، خاصة مع الشباب الصغار، والسبب هو عدم فهم مباريات الصراع، أو عدم الاعتراف بها، فقد تخسر الفوز بمركز وظيفي معين، أو تتورط في التوقيع على أوراق تمثل خطورة قانونية، لا لشيء إلا لأنك لم تدرك مباراة الصراع والأهداف، وهذا ما يجعل البعض يخسر كثيرا، ويضطر في منتصف حياته إلى تغيير مسارات كثيرة، بل تغيير حياته بمجملها بسبب هذه الأخطاء... يتبع.

إنشرها