الزحف التكنولوجي .. تقدم يفسد لذة الاكتشاف

الزحف التكنولوجي .. تقدم يفسد لذة الاكتشاف

تاريخيا، تعود البدايات الأولى لفكرة التقدم التي تعني التحضر، إلى النصف الثاني من القرن الـ17، حين شرع الأدباء والعلماء على حد سواء في السجال بشأن الأهمية التي يجب أن تعطى لإرث القدماء وإنتاجهم العلمي والأدبي. وفي هذا السياق، جاءت مقولة برنارد دو فونتونيل؛ الأب الروحي لفلاسفة فرنسا في القرن الـ18، التي تعد "القدماء في الواقع هم شباب الإنسانية، أما المعاصرون فهم شيوخها".
وهكذا يكون مفهوم "التقدم" عمليا مرادفا لفكرة الاقتراب من المستقبل بالشروط الإنسانية الواجبة، وكلما اقتربت الجماعة الإنسانية من المستقبل استحقت أن توصف بأنها متقدمة. وعليه، تكون حركة التقدم مفارقة الواقع إلى واقع آخر أفضل في المستقبل؛ أي السير إلى الأمام نحو وضع مثالي لم يتحقق بعد، وربما قد لا يتحقق أبدا. يقوم التقدم كمبدأ عام في مسار الشعوب والحضارات على أساس قاعدة "التراكم"، وأحيانا على مبدأ "التجاوز". فعديد من الأشياء تنكرت لها قاعدة التقدم القائمة على التطور نحو الأفضل، وقبلت أن تتواضع وتدخل رفوف التاريخ الواسعة، حيث أضحى بعضها جزءا من الماضي، فيما يزال بعضها الآخر يقاوم رافضا الاستسلام لمبدأ التجاوز.
توالت الدراسات التي تفيد بأن التقدم السريع للتكنولوجيا سيظل يشكل تهديدا لعديد من الأشياء من حولنا. وعلى غرار مساهمته في ظهور وازدهار مهن جديدة، فإن المرجح أن مهنا أخرى ستصبح طي النسيان في غضون عقد من الزمن أو أكثر بقليل. كما أن جوانب كثيرة من حياتنا تشهد انقلابا جراء هذا الزحف التكنولوجي، لدرجة أن أمورا رافقت الإنسانية عبر تاريخها الطويل، لن تذوق الأجيال المقبلة طعمها.

في رفوف التاريخ
لا شك أن عديدا من الأشياء التي انقرضت ستتحول إلى شبح لدى جيل الألفية الثالثة، بل منها ما قد يجلب له الضحك حين يسمع عنه لأول مرة. نعم كيف سيتلقى من فتح عينيه على القنوات الفضائية، ومواقع "يوتيوب" و"نيتفليكس"، ووجد في جيبه كاميرا (هاتف) يخوله إمكانية التصوير والبث المباشر لمقاطع الفيديو، فكرة نوادي الفيديو، التي تقدم خدمات استئجار الأشرطة في محال خاصة، مقابل مبلغ مالي وبطاقة ثبوتية، خلال فترتي السبعينيات والثمانينيات.
نفس الأمر يسري على الكاسيت الصوتي الذي اختفى تحت وطأة موجة الأقراص المضغوطة، وذهبت معه متعة إعادة الشريط باستخدام القلم، والنفخ فيه من أجل تنظيفه. وانقرضت معه الآلات التي كانت تشغله. قد يجد المرء نفسه؛ بعد سنوات من الآن، محط سخرية، وهو يهم بوضع القلم في جيب القميص الذي كان علامة من علامات الأناقة، ودلالة على الانتماء النخبوي، إذ لم يعد استخدامه شائعا كما في السابق، بعدما بات حفظ المعلومات متاحا على جهاز الحاسوب، أو جهاز الهاتف المحمول الذي أضحى مخزنا لبعض المعلومات والملاحظات.
أسهم انتشار المدونات وصفحات الكتابة والتغريد على مواقع التواصل الاجتماعي في إزاحة صفحات "بريد القراء" من الجرائد. فقد كانت الصحف الورقية تشتمل على صفحات وزوايا مخصصة لنشر إبداعات المحررين، وكان "بريد المحرر" الزاوية الأكثر قراءة ومتابعة.

أشياء تقاوم
لم يكن هنالك بيت يخلو من ألبوم صور العائلة، ذاك الدفتر الذي يضم في صفحاته صور الأفراد، ويوثق ذكريات الطفولة والشباب والأصدقاء، ويجمع أفراد الأسرة على مشاهدتها لاسترجاع أجمل اللحظات، والذي يصارع اليوم من أجل البقاء بعدما تمت الاستعاضة عنه بالنسخ والحفظ الإلكتروني للصور.من المرجح في غضون العقود القليلة المقبلة أن تختفي الأقفال والمفاتيح من الاستخدام اليومي، وستبدل المفاتيح بالأزرار الإلكترونية، والأقفال بالبطاقات الرقمية الممغنطة، إذ بدأت هذه الفكرة تلقى إقبالا من جانب الشركات والفنادق. أكشاك الهاتف (الهاتف العمومي) التي تقدم خدماتها إلى عموم المواطنين، ممن يحتاجون إلى إجراء اتصالات هاتفية دون أن يكون له اشتراك في خطوط الهاتف، مقابل قطع نقدية تقل أو تكثر بحسب مدة المكالمة الهاتفية، في طريقها إلى الانقراض. فوفق شبكة إخبارية أمريكية، ستختفي هذه الخدمة في الولايات المتحدة الأمريكية في غضون 12 سنة القادمة، بعدما كان عددها يزيد على ثلاثة ملايين كشك هاتفي في التسعينيات من القرن الماضي.

مهن على اللائحة
وفق المعهد الفرنسي سابيان المهتم بالإشكاليات المتعلقة بالتقنيات الحديثة، إذا كانت مهنتك ضمن واحدة من المهن الخمس الأكثر تعرضا للاختفاء، مقارنة بالمهن الأخرى، بسبب التطور التكنولوجي، فما عليك سوى التفكير في مهنة بديلة. في الوقت الذي انتشرت فيه تطبيقات التراسل الفوري، تفننت مواقع التواصل الاجتماعي فيما تقدمه من خدمات لزبائنها، لم يعد هناك أحد يكتب رسالة ويرسلها عبر البريد. تلك العملية المكلفة التي تستغرق وقتا طويلا، لذا أضحت خدمات البريد في طريقها إلى الانقراض. قد تكون مهنة وكيل الأسفار التي اخترت دراسة من أهم المهن في القرن الـ20، فالعديد من الشركات السياحية كانت تلجأ إليها لاستقدام السياح. لكنها تتجه اليوم أو ربما غدا لتصير في خبر كان، وذلك بسبب تطور تطبيقات السفر والفنادق وعروض الأسعار... ما يجعل من مهنة وكيل الأسفار في خطر حقيقي. من المهن المهددة في القريب العاجل، وفق ذات الدراسة، مهنة التسويق عبر الهاتف التي أضحت في بعض الدول مهنة من الماضي. فتقنية التسوق أونلاين والدفع ببطاقة البنك، ألغت الحاجة لأي بائع عبر الهاتف كي يشجعنا على شراء أي غرض أو منتج معين.
ما من شك أن التكنولوجيا تسعى إلى الدفع بالإنسان إلى مدارج المدنية والتقدم، لكن مقابل ذلك ينبغي الاستعداد لتأدية الثمن. وعادة ما يكون غاليا، لأنه يأتي على أمور وثيقة الصلة بالإنسان على رأسها مسألة الخصوصية التي تفتقد تدريجيا. علاوة على أمور من صميم الطبيعة البشرية، فخرائط جوجل التي حلت مكان الخرائط الورقية المعروفة مثلا، تجنبنا متاهة الضياع في الطرقات. لكن العلماء يرون في ذاك الضياع أهمية، لكونه يحفز الدماغ، وعاملا على مزيد من الاكتشاف. فهذه الخرائط تحد من متعة الاكتشافات، فعند الضياع في المدينة قد نكتشف مكتبة أو مقهى جديدا نتردد عليه.

الأكثر قراءة