ألمانيا .. مواقع الأخبار اليمينية تتحدى وسائل الإعلام التقليدية

ألمانيا .. مواقع الأخبار اليمينية تتحدى وسائل الإعلام التقليدية

"جريمة قتل في كيمنتز: مع الأسف ليست حالة استثنائية". "متطرف يساري يستمر في العمل معلما في مرحلة ما قبل الابتدائي". "اليونان تحتفل بينما يشعر المستثمرون الألمان بالإحباط". "كيف تمول ألمانيا الإرهاب العربي".
تلك هي العناوين الرئيسة الواردة في "تايكيز إنبليك"، وهو موقع إخباري إلكتروني يميني متشدد جدا في آرائه ويحظى بشعبية كبيرة بين المحافظين في ألمانيا.
العقل المدبر وراءه، رولاند تايكي، رئيس تحرير سابق لمجلة الأعمال Wirtschaftswoche والسوط المسلط على الأسلوب الصحافي الذي يراعي الحساسيات السياسية وتوافق الآراء في ألمانيا.
"تايكيز إنبليك" الذي تأسس في 2014، ولديه ما يقارب مليون زائر شهريا، موقع لا تستغني النخبة في برلين عن الاطلاع عليه – بمن فيهم الليبراليون الذين يجب أن يعرفوا ما يفكر فيه العدو. قال تايكي في مقابلة أجريت معه "كثير من الناس لا يحبوننا، لكنهم يعرفون أنهم يجب أن يقرؤوا ما نكتب".
ديتليف هوبنر، رجل أعمال من مدينة هوفنهايم القريبة من فرانكفورت، ومعجب كبير بالموقع، قال: "ببطء شديد، أصبحت أصوات المحافظين تشكل أقلية في ساحة وسائل الإعلام الألمانية، التي أجد أنها بشكل متزايد ذات نغمة يسارية ومحبة للبيئة ومؤيدة للقوانين التنظيمية".
"تايكيز إنبليك" واحد من بين مجموعة من المنافذ الإخبارية البديلة التي تحرز تقدما في ألمانيا، حيث يشعر عدد متزايد من القراء أن الصحافة التقليدية موالية بشكل كبير فوق الحد لأنجيلا ميركل، المستشارة صاحبة الخدمة الطويلة، ونمطها من السياسة المعتدلة الوسطية.
بدأت أهمية المنافذ الجديدة في التزايد في الوقت الذي أخذت تتعمق فيه الانقسامات السياسية في ألمانيا، وهو اتجاه برز من خلال التظاهرات اليمينية المتطرفة في كيمنتز عقب اعتقال اثنين من طالبي اللجوء فيما يتصل بجريمة قتل رجل في المدينة الشهر الماضي.
مثل هذه الوسائل الإعلامية الجديدة تتزايد في كل أنحاء العالم الغربي. في الولايات المتحدة، الموقع الإخباري الإلكتروني اليميني المتطرف "برايتبارت" وفوكس نيوز هما من وسائل الإعلام التي يتوجه إليها المحافظون الذين صوتوا لصالح ترمب والذين يرون أن هناك تحيزا يساريا في "وسائل الإعلام من التيار السائد".
المشهد الإعلامي في ألمانيا يبدو أقل استقطابا: أكثر من عشرة ملايين شخص، نحو 12 في المائة من عدد السكان، لا يزالون يشاهدون Tagesschau، وهو برنامج أخباري يومي يذاع في الساعة الثامنة مساء من قناة التلفزيون الرئيسية "إيه آر دي".
مع ذلك، تشعر أقلية من الناس بأن وسائل الإعلام الراسخة موالية فوق الحد للحكومة – وهو اتجاه بلغ ذروته خلال فترة أزمة اللاجئين في عام 2015، عندما قدمت معظم الصحف وقنوات التلفزيون والمحطات الإذاعية الدعم لقرار ميركل المتمثل في إبقاء حدود ألمانيا مفتوحة أمام اللاجئين.
قال تايكي: "إنه شكل غريب من الإعلام عندما تجد الصحافيين يدافعون عن الحكومة".
توصلت دراسة أجرتها كلية الإعلام في هامبورج وجامعة لايبزيج، صدرت العام الماضي، إلى أن وسائل الإعلام الألمانية كانت بشكل عام مقلة كثيرا في الانتقادات في تغطيتها لأحداث الأزمة. وأفاد التقرير: "حتى أواخر خريف عام 2015، نادرا ما كانت هناك افتتاحيات تعالج مواطن القلق والمخاوف وكذلك المقاومة التي كان يبديها جزء كبير من السكان".
وذكر التقرير أيضا أن ذلك أسهم في فقدان الثقة بوسائل الإعلام التقليدية التي غالبا ما يشير إليها اليمين الألماني بـ "الصحافة الكاذبة". في دراسة استقصائية أجرتها جامعة ماينز، نشرت في شباط (فبراير) الماضي، أبدى 17 في المائة ممن شملتهم الدراسة عدم ثقتهم على الإطلاق في وسائل الإعلام.
مثل هذه الآراء آخذة في الانتشار. بيرنارد بوركسين، وهو باحث وسائل الإعلام الألمانية، كتب العام الماضي في صحيفة "داي تسايت": "الاشتباه في أن الناس يجري التلاعب بهم من قبل مؤسسات البث العامة ومن قبل الصحافيين الذين يفترض أنهم أقويا تماما، انتقل من الهوامش اليمينية إلى وسط المجتمع".
وسائل الإعلام التقليدية، التي تعاني أصلا انخفاضا في الشعبية، تتخذ موقفا دفاعيا. عندما طلبت المجلة الإخبارية "دير شبيجل" أخيرا آراء القراء حول الصحافة التي تقدمها، كان كثير من الردود الثلاثة آلاف التي تلقتها منتقدة بدرجة كبيرة وتحمل اتهامات للصحافيين بأن لا صلة لهم بالواقع.
قالت إيزابيل هولسين، وهي صحافية في المجلة أجرت تحليلا للردود الواردة: "الإحساس العام من الردود هو: أنتم أيها العاملون في الإعلام تعيشون في فقاعة ليبرالية، وأن هناك أمورا لا يمكن أن تشككوا فيها أبدا، مثل فكرة أن الاتحاد الأوروبي هو شيء جيد. وقالوا إن من السهل بالنسبة إليكم التحدث إلى رئيسة صندوق النقد الدولي في واشنطن، بدلا من أن تتحدثوا مع أشخاص في حانة في ألمانيا الشرقية".
ودعت المجلة 200 شخص ممن شملتهم الدراسة للتحدث إلى الصحافيين حول الكيفية التي يمكن من خلالها تحسين التغطية الإعلامية. وكانت النتائج مثيرة للتفكر لكنها بناءة.
قالت هولسين: "يتعين علينا فقط الاعتياد على فكرة أن الناس يقرؤون على نطاق واسع جدا الآن ويتعرضون لمعلومات تتناقض مع ما نكتبه. فيأتون ويقولون ’قرأت هذا الخبر عبر موقع تايكي أو في NZZ أو في مكان آخر، وإذا كان باستطاعتي أنا العثور على هذه المعلومة عبر الإنترنت، كذلك تستطيعون أنتم‘".
الأحرفNZZ هي اختصار لعبارة Neue Zürcher Zeitung، وهي صحيفة سويسرية لها من يتابعها أيضا في ألمانيا. وتعتز هذه الصحيفة بنظرتها الليبرالية في الاقتصاد والمحافظة نوعا ما في السياسة. وهي، مثلا، كانت منذ البداية تنتقد سياسة "الأبواب المفتوحة" التي انتهجتها ميركل في تعاملها مع قضية اللاجئين.
إيريك جوجر، رئيس تحرير NZZ، قال: "دائما ما كنا نقول إن من المهم عدم استنفاد طاقة الناس في بلدكم، لأنه ستكون هنالك عواقب، وهذا تماما ما حصل. لهذا السبب لدينا الآن حزب البديل لألمانيا (اليميني المتطرف) في البرلمان الألماني".
أطلقت صحيفة NZZ العام الماضي رسالة إخبارية أسبوعية بعنوان "النظرة الأخرى"، مستهدفة بالتحديد القراء في ألمانيا، وعملت على مضاعفة عدد المراسلين لديها في البلاد.
ووصف جوجر إن صحيفته بأنها خارج إطار ما يمكن أن يوصف بأنه إجماع آراء خانق في ألمانيا. وقال: "يغلب على معظم الصحافيين الألمان أن تكون لديهم خلفية يسارية ليبرالية مؤيدة للبيئة، لا يتصف بها السكان بصفة عامة".
أما وسائل الإعلام الجديدة الأخرى فهي يمينية بشكل ملحوظ أكثر. من بينها "كومباكت"، التي تطلق على نفسها لقب "مجلة السيادة"، والصحيفة القومية المحافظة Junge Freiheit (الحرية الشابة)، وقناة الأخبار الصاخبة "بي آي" (التي لا تراعي الحساسيات السياسية).
رغم أن هذه الصحف ليست مدرجة على قائمة القراءة لدى رجل الأعمال هوبنر، إلا أنه يقرأ على نطاق واسع قدر ما يستطيع، ويتصفح يوميا موقع "دير شبيجل" عبر الإنترنت، وأخبار هيئة الإذاعة البريطانية، وصحيفة NZZ وصحيفة "فرانكفوتر ألجيمين زيتونج"، وهي واحدة من الصحف الألمانية الموقرة. و"تايكيز إنبليك" مادة قراءة أساسية لديه.
قال: "المشهد الإعلامي الخالي من تايكي سيكون أشبه بفرقة موسيقية تخلو من البوق. هذا البلد يحتاج إلى التنوع".