الإنترنت الأسود .. ماذا أعددنا لظلماته؟

الإنترنت الأسود .. ماذا أعددنا لظلماته؟

تعود بدايات الإنترنت، التي تعد أحد عناوين التقدم التكنولوجي في عصرنا الحالي، إلى أواخر عقد الستينات من القرن الماضي؛ أو ربما قبل ذلك بقليل. لكن الإجماع يقع بين الباحثين على تحديد عام 1969 كنقطة البداية، حين أوجدت وزارة الدفاع الأمريكية؛ استنادا إلى ما راكمه عالم الحواسب ليونارد كلينروك تراكمات نظرية في مجال الكمبيوتر، شبكة اتصالات قادرة على الاستمرار في عملها في حال تعرض البلاد لهجوم نووي خلال الحرب الباردة المشتعلة حينها.
تقوم الإنترنت على فكرة بسيطة، تتمثل في تأسيس شبكة اتصالات ليس لها مركز رئيسي يتحكم فيه Network، فظهر حينها ما يعرف بمصطلح "شبكة وكالة مشروع الأبحاث المتقدّمة" ARPANET، الذي استمر العمل به إلى غاية 1991، حيث تم استبداله بالمصطلح الشائع حاليا "شبكة الإنترنت العالمية"World Wide Web، ما حول الإنترنت إلى شبكة اتصال عنكبوتية عالمية، لا يمكن الاستغناء عنها.
ولا أدل على هذه الأهمية من الأرقام التي تفيد بأن عدد المواقع على شبكة الإنترنت بلغ أكثر من 47 مليار موقع، فيما تعدى عدد مستخدمي الإنترنت حول العالم سقف 3.58 مليار مستخدم. وتجاوز عدد الحسابات المفتوحة على اليوتيوب مليار حساب، وتم تنزيل أزيد من 90 مليار برنامج وتطبيق بواسطة الإنترنت على أجهزة الهواتف الذكية. وبرسم سنة 2017 فقط، تم إرسال 269 مليار رسالة في البريد الإلكتروني email، وتم تحميل أكثر من 1.2 تريليون صورة عن طريق شبكة الإنترنت.
لكن الغريب والمفاجئ في ذات الوقت، هو أن ما سبق مما يطلق عليه اسم "الإنترنت العادي" لا يمثل سوى 5 في المائة من مجمل المحتوى الفعلي لعالم الإنترنت. فيما تشكل نسبة 95 في المائة الباقية عوالم الإنترنت المظلم dark web، التي تشبه سوقا رائجة لكل المواقع المخالفة للقانون التي لا يسمح بإدراجها في محركات البحث العادية.
عالم أشبه ما يكون بمستنقع يحتوي كل شيء، فكل الممنوعات في الإنترنت العادي تصبح متاحة هنا. إننا أمام أسواق غير تقليدية نشيطة؛ من تجارة الأسلحة إلى تجارة الأعضاء والأطفال. وتقديم خدمات متنوعة كبيع وشراء الأسلحة والمواد المحظورة، وسرقة بطاقات الائتمان والتعامل بها، وتوظيف قتلة مأجورين أو قراصنة إنترنت، شراء كتب ممنوعة أو خدمات رقمية معينة لتعطيل مواقع أخرى. وصولا إلى مواقع تقدم بثا مباشرا لعمليات القتل والاغتصاب.
لا يمكن الولوج إلى محتوى الإنترنت المظلم إلا عبر متصفحات خاصة، توفر الحماية لمستعمليها بعدم ترك أي أثر لتعقبهم أو التجسس عليهم؛ فمستخدمو مواقع هذا المستنقع يحظون بحماية نوعية على البروتوكولات والنطاقات المستخدمة في عالم النت الأسود.
يصعب العثور على مواقع الإنترنت المظلم على الرغم من كثرتها، لأنها نطاقات غير مألوفة خاضعة للتغيير باستمرار. لكن هناك عدة محركات بحث خاصة يمكن للراغب في اكتشاف خبايا الظلام الاستعانة بها، منها على سبيل المثال لا الحصر شبكات TOR وl2p وFreehand ... وغيرها كثير.
يعد متصفح TOR بوابة الظلام الأكثر شهرة لمن يرغب في زيارة هذه العوالم، حيث يعمد الموقع إلى تشتيت المعلومات المتعلقة بالمتصفح بين عدد كبير من الحسابات الوهمية، فيخفي هوية مستخدمه عن المواقع التي يتصل بها، كما يحميك من شبكة TOR نفسها، ليبقى ذاك المجهول في سوق النت الأسود.
المجهولية أمر ضروري في لضمان الانتعاش في هذه الفضاءات، فالتعاملات والممارسات التي تنشط فيها معاقب عليها قانونا في كل دول العالم بدون استثناء. فعلى سبيل المثال، تقدر مواقع جنس الأطفال من أكثر المواقع انتشارا في بقاع النت المظلم، حيث قدرت؛ بحسب بعض المختصين، بأزيد من 50 ألف موقع، تشكل ثالث صناعة رائجة في النت، تعتمد على دفع مبالغ مالية ضخمة لمؤسسيها مقابل بث حي لجرائم اغتصاب وترويع الأطفال الذين غالبا ما يكونون مختطفين، تسجل متابعات عالية من طرف المرضى النفسيين.
تشكل الغرف الحمراء Red Room قمة الوحشية والهمجية في رحاب هذا الفضاء المجهول، فهي تقدم بثا حيا ومباشرا لعمليات القتل والاغتصاب، بينما يصوت المتابعون حول ما إذا كان الضحية سيعيش أكثر أو يتم قتله بسرعة، ويتم تنظيم رهانات رقمية باستخدام عملة "بيتكوين"، حول أبشع طرق القتل والتعذيب التي يريد المشاهدون تطبيقها على الضحية، الذي غالبا ما يقضي ساعات من العذاب أمام كاميرا قبل أن يتم قتله.
باختصار، إننا أمام سوق مفتوحة للممنوعات يزداد حجم روادها يوما بعد آخر، بسبب الرقابة والتضييق المفروضة على الإنترنت العادية. ما يعني بمفهوم المخالفة أن ارتفاع مستويات الرقابة في عالم النت التقليدي، وإحكام الدول سيطرتها عليها، لا يعني مطلقا أن الدول والمجتمعات في مأمن عن هذه المخاطر.
خصوصا حين ندرك أن أساس الصعوبة يكمن في عدم القدرة على تتبعه أولا، ثم توقع حدود تهديداته التي قد تطال الأمن الداخلي للدول. فعلى الرغم من التقدم الحاصل في المجال التكنولوجي المرتبط بالشبكة العنكبوتية، إلا أنه يصعب توقع حدود خطورة الإنترنت الأسود المنفلت من أي رقابة.
إن المخاطر التي تمثلها هذه العوالم أضعاف مضاعفة من خطر الحروب الإلكترونية التي نسمع عنها من حين إلى آخر، لذا ما على الأفراد والمجتمعات والدول على حد سواء سوى الاستعداد لمرحلة مواجهة مخاطر هذا النوع من الإنترنت، بالاعتماد على التطوير المستمر لتقنيات المواجهة بما يكفي لمواكبة تسارع خطى تهديداته... فالإنترنت سيف ذو حدين.

الأكثر قراءة