«أبشر» .. ثقافة التحول الرقمي المنشود

كانت "التقنية" عبر الزمن وسيلة لتغيير أسلوب حياة "الإنسان" وتطوير "مؤسساته"، والانتقال به من عصر سابق إلى عصر جديد. التقنية الزراعية وطنت الإنسان إلى جانب أرض يزرعها ويستفيد من معطياتها. والتقنية الصناعية التي تلتها أضافت إلى ذلك وسائل فعالة للتنقل، وتصنيع منتجات مفيدة تسهل أمور الحياة. والتقنية الرقمية الحديثة قدمت إليه وسائل متجددة للتعامل مع المعلومات، تشمل "تبادلها" آنيا عبر المسافات، و"تخزينها" بكميات كبيرة في أحجام صغيرة و"معالجتها"، عبر إجراءات تتطور في ذكائها نحو محاكاة ذكاء الإنسان. ونظرا لأهمية المعلومات في حياة الإنسان ومختلف نشاطاته، فقد كان للتقنيات الرقمية أثر كبير في فاعلية عمل الإنسان وكفاءته، وفي منحه رفاهية غير مسبوقة، تتطور باستمرار نحو المزيد.
ثلاثية "التقنية" التي تقود التغيير، و"الإنسان" الذي يبتكرها ويستخدمها ويستفيد منها، و"المؤسسات ونشاطاتها وإجراءات عملها"، التي تتطور نتيجة لذلك، مثلت دائما عوامل التحول في حياة الإنسان نحو عصر جديد. وقد كان كل تحول رئيس من تحولات العصور يشهد انتشارا يعم العالم بأسره، ولا يقتصر على أمة أو منطقة جغرافية بعينها؛ لأن الإنسان، أينما كان، تواق بفطرته إلى استيعاب المستجدات التي تسهل أمور حياته، وتعزز رفاهيته وأداءه.
اليوم، نحن أمام "التحول الرقمي"، الذي يستند إلى تقنية تتسم بإمكانات تتطور وتتجدد بشكل متسارع، وتنتشر في تطبيقاتها وفوائدها عبر مختلف شؤون الحياة. وعلينا أن نهتم بتفعيل هذا التحول في حياتنا ومؤسساتنا، وعلينا توجيه هذا الاهتمام ليس فقط نحو الاستفادة من تقنياته على أفضل وجه ممكن، بل نحو الإسهام في تجدد هذه التقنيات، ليكون موقعنا في العصر الرقمي المتجدد، ليس فقط موقع الأخذ من معطياته، بل في موقع الإسهام في هذه المعطيات أيضا.
خدمات "أبشر" الإلكترونية، التي يعرفها الجميع في المملكة، مثال حي لجانب من جوانب "التحول الرقمي" الذي تشهده المملكة. ترتبط هذه الخدمات "بتقنية رقمية متجددة"، يدير عملها "الإنسان الخبير"، لتقوم بإجراءات تقدم خدمات "مؤسسة حكومية رئيسة هي وزارة الداخلية" إلى "الإنسان المستفيد"، وإلى "مؤسسات" حكومية وغير حكومية أخرى تحتاج إليها. وهناك أمر يميز "أبشر" في مجال مثل هذه الخدمات هو أنها تسعى أيضا إلى تطوير هذه الخدمات بشكل متواصل يستجيب للمتغيرات وتجددها، من خلال "ثقافة تطوير متجدد"، تهتم بالارتقاء بثلاثية "التقنية والإنسان والعمل المؤسسي" كعوامل لتفعيل التطوير المطلوب.
في سعيها نحو بناء ثقافة التطوير، ابتكرت وزارة الداخلية مفهوما جديدا يعمل على التطوير وعلى تفعيل تجدد الخدمات يدعى "حي أبشر"، وجعلت مقره في المبنى الرئيس للوزارة. وقد أتيحت لي زيارة هذا الحي والاطلاع على نشاطاته، وثقافة التحول الرقمي المتجدد التي يبنيها عبر اهتمامه "بالتقنية والإنسان والعمل المؤسسي". ولعلنا نلقي الضوء فيما يلي على هذا الحي الفريد.
إذا بدأنا بالتقنية وتطويرها وتفعيل خدماتها، نرى أن في "حي أبشر" "ركنا للإبداع" يهتم بتجديد التقنية والإبداع والابتكار في تطويرها، وفي الاستفادة منها في تقديم خدمات جديدة أو تعزيز خدمات قائمة. وبين التقنيات الجديدة المطروحة في هذا الركن: تقنية الترجمة الفورية؛ وتقنية جسم المراقبة الطائر؛ وتقنية الخدمات المتجددة عبر أجهزة الجوال الذكي؛ وغيرها.
وهناك في حي أبشر ركن آخر لمزيد من الإبداع والابتكار، وتفعيل الاستفادة من فكر "الإنسان" المتميز، هو "ركن شباب أبشر" الذي يهتم بأفكار الشباب. ويأتي هذا الاهتمام من حقيقة أن شباب هذا العصر الملقبين، على المستوى الدولي، بلقب "المواطنين الرقميين" هم الأقدر على الإسهام في تفعيل البيئة الرقمية نتيجة نشأتهم في هذه البيئة ومعايشتهم استخدامها وتطورها. ويجمع هذا الركن شباب أبشر المتميزين من مختلف أنحاء المملكة، عبر منصة تمكنهم من الشراكة المعرفية، وتقديم أفكار مبتكرة بشأن تطوير "التقنية وأساليب استخدامها"، والعمل على الاستفادة منها بكفاءة وفاعلية.
ولا يستثني "حي أبشر"، في سعيه إلى التطوير المستمر، "الخبرات الإنسانية" القائمة لدى جميع العاملين سواء الشباب أو غيرهم، من الإسهام في هذا التطوير. فلديه قاعة تدعى "قاعة التغيير" مخصصة لعقد ورش عمل وجلسات عصف ذهني للمهتمين، يسعون فيها إلى تطوير إجراءات العمل والخدمات، والاعتماد في ذلك على "التقنيات" الحديثة، وعلى إمكان العمل على تطويرها. ولدى "أبشر" أيضا قاعة أخرى هي "قاعة التعلم"، التي تسعى إلى تحديث معارف العاملين وتطوير قدراتهم ومهاراتهم عبر توفير مصادر معرفية متعددة تمكنهم من ذلك.
وفي إطار الشراكة المعرفية بين "أصحاب العلاقة" والاهتمام "بالتطوير المؤسسي" لخدمات أبشر، يتضمن حي أبشر ثلاثة مكونات أخرى. أولها "ركن العملاء"، الذي يشمل منصة تعنى بالتواصل مع العملاء وجمع آرائهم وملاحظاتهم، ودراسة أنماطهم وشرائحهم؛ لتطوير الخدمات التي يحتاجون إليها بطريقة استباقية. أما المكون الثاني فهو "ركن الإعلام"، الذي يسعى إلى توعية جميع أصحاب العلاقة بخدمات أبشر وتطورها المستمر، بما يشمل العملاء والعاملين والمجتمع بأسره، وذلك عبر مواد إعلامية معبرة وجذابة يستفيد منها الجميع. ويأتي المكون الثالث بعد ذلك، وهو "عيادة الأعمال" ليهتم بالشراكة المعرفية بين الخبراء، في إطار فروع أبشر ومؤسسات استشارية خبيرة، من أجل "تشخيص" المشكلات والمعوقات القائمة أمام التحول الرقمي عموما، وخدمات أبشر خصوصا، ومحاولة "معالجتها"، وتوصيف الحلول الناجعة لها.
هذه صورة مختصرة "لحي أبشر"، والصورة الحقيقية هي بالطبع أوسع نطاقا وأعمق معرفة وأكثر جاذبية. إنها مثال للعمل على بناء ثقافة للتحول الرقمي تتسع لتشمل، ليس فقط خدمات أبشر، بل الخدمات الرقمية الأخرى في مختلف نواحي الحياة. ولعله لا بد من الإشارة في الختام إلى أن خدمات "أبشر" وما يماثلها تعمل على المستوى الوطني عبر "الفضاء السيبراني للإنترنت"؛ حيث "التحول الرقمي على مستوى العالم"، الذي نمثل جزءا منه. ولا شك أننا نحتاج، انطلاقا من تميز "خدمات أبشر وحي أبشر" إلى العمل على وضع "سياسة وطنية متكاملة للتحول الرقمي"، تأخذ في الاعتبار تجدده المتواصل والمتغيرات العالمية المرتبطة به، والمجالات التي يمكن أن تستفيد منه، وصولا إلى استخدام ذلك في تحقيق طموحاتنا المنشودة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي