ثقافة وفنون

الغباء .. صناعة رائجة تجمع الحشود

الغباء .. صناعة رائجة تجمع الحشود

الغباء .. صناعة رائجة تجمع الحشود

منتصف القرن الماضي، كتب كارو سيبولا (Carlo Cipolla) المؤرخ الاقتصادي بجامعة كاليفورنيا؛ من أصل إيطالي، مقالة عن القوانين الأساسية للغباء البشري طورها بعد ذلك إلى كتاب بنفس العنوان صدر عام 1976 باللغة الإنجليزية (The basic laws of human stupidity)؛ في طبعة محدودة لتحفظ صاحبه على ترجمته خوفا من تأثر مضامينه، قبل أن يتراجع عن ذلك لاحقا ليتيح للكتاب فرصة الانتشار على أوسع نطاق، وبأكثر من لسان.
تضمن الكتاب تعريفا لمعنى الغباء ومفهوم الأغبياء، فالإنسان اجتماعي بطبعه بحسب سيبولا، ما يجعله "يعيش متفاعلا مع الآخرين في شبكة علاقات دائمة، يُؤثر فيهم ويتأثر بهم. ما يفضي بالضرورة إلى منافع أو خسائر اقتصادية أو نفسية، إلى كسب أو ضياع للطاقة أو الوقت". وحدد بدقة القوانين الأساسية للغباء البشرى، الذي يعده المؤلف أكبر تهديد للوجود البشري. فالغباء صناعة تصنع كما تصنع الأحذية، ويصنع كي يُلبس، ولكن في الرأس لا في القدم.
يُقر المؤلف بصعوبة تقديم تعريف دقيق أو وضع مقياس محدد للغباء، غير أن هذا ليس دليلا لنفي وجوده من حولنا كإحدى الصفات الحياتية المرتبطة بأسلوب حياة البشر. ويؤكد أنه لا يريد الحديث عن الحماقة، ولكن عن الغباء بالمعنى الدقيق للكلمة.
يعيدنا هذا التمييز، الذي يقيمه مؤرخ إيطالي معاصر بين الغباء والحمق إلى ذخائر التراث العربي مع كتاب "أخبار الحمقى والمغفلين" للفقيه الحنبلي أبو الفرج الجوزي، الذي يفرق فيه بين الحُمق والجنون، فينقل عن ابن الأعرابي أن "الحمق مأخوذ من حمُقتِ السوق إذا كسدت، فكأن الأحمق كاسِد العقل والرأي، فلا يُشاور ولا يلتفت إليه في أمر حرب". فالحمق والتغفيل إذن هو الغلط في الوسيلة والطريق إلى المطلوب مع صحة المقصود. بخلاف الجنون، فإنه عبارة عن الخلل في الوسيلة والمقصود جميعا.
في معرض التمييز؛ باعتماد النفي دائما، نجد البعض ينظر إلى "الغباء باعتباره حالة عقلية، لا ينقصها علم أو دراسة وهذا ما يميزها عن الجهل، إلا أن كلا من الجهل والغباء يؤديان إلى سوء التكيف مع الواقع والتصرف في عكس اتجاه المصلحة، وذلك تحت ظروف اختيارية حرة دون قسر أو إجبار".
بالعودة إلى صفحات الكتاب -على قلتها- نجد كما من المعلومات والحجج، في محاولة من هذا الأكاديمي لشرح كيفية التعرف على الغبي، يطرح خمسة قوانين أساسية تتعلق بالظاهرة، هي: الأول، "لا شك أن كل فرد منا يقلل من عدد الأغبياء حوله". والثاني، "إننا نجد نسبة الأفراد الأغبياء، نفسها، في كل مجموعة اجتماعية، مهما كانت". والثالث، "إن الغبي يمكن تعريفه بواقع أنه يخطئ حيال آخر، أو حيال آخرين، دون أن يجني فائدة من ذلك". والرابع، "الأفراد من غير الأغبياء، يقللون دائما من مقدار ما يمكن أن يسببه الأغبياء من أذى". والخامس والأخير، "الأغبياء هم الأشخاص الأكثر خطورة، إنهم أكثر في مستوى خطورة رجال العصابات".
يشدد سيبولا على أنه لا يرمي إلى التأسيس لما يمكن أن يبدو كتمييز بين الأفراد. وذلك مرده إلى سبب بسيط هو أنه صادف أغبياء في المصانع وفي وسائل الإعلام وفي الجامعات، بل يذهب إلى حد القول "إن الحائزين على جائزة نوبل ليسوا بمنجاة من الغباء".
من الأسئلة المسكوت عنها في القوانين الأساسية للغباء البشري، ربما عن قصد وإصرار من جانب الكاتب، ماهية الغباء البشري، هل يولد فينا أم نكتسبه مع مرور الوقت؟ هل يتعلق الأمر بعوامل وراثية، أو بالتعليم والثقافة وفق ما تثبته أو تنفيه ملايين من الأبحاث والدراسات التي لطالما ربطت الذكاء بالعوامل البيئية؟ بصيغة أكثر وضوح، هل يُصنع الغباء كما يُصنع الذكاء؟
يبدو أن الجواب عن السؤال قدّمه مبكرا الفيلسوف الكولومبي نيكولاس غ دافيلا حين قال: "الذكاء يعزل الأفراد، في حين أن الغباء يجمع الحشود"، لما يظهره الأغبياء من قناعات تجعلك تظنهم ملاك "الحقيقة المطلقة"، ما جعل فيلسوفا من طينة برتراند راسل يصف الأمر بقوله: "مشكلة العالم أن الأغبياء والمتشددين واثقون بأنفسهم أشد الثقة دائما، أما الحكماء فتملؤهم الشكوك".
مهما يكن الأمر، يبقى المؤكد أن من لم يكن غبيا بالوراثة مرشح لذلك بالثقافة، فصناعة الغباء أضحت تجارة رائجة أكثر من أي وقت مضى، فأينما تولي وجهك تجده باسطا سطوته، في التعليم كما في الإعلام. ففي المدرسة أضحى التلقين أسرع طريق للغباء، ولم يعد هناك وقت للأسئلة، بعدما صارت الغاية الكبرى للعملية التعليمية هي امتحان قصد تحديد مستوى التلقين والحفظ. أما الإعلام فقد تخلى عن أدواره الكلاسيكية المرتبطة بنشر التوعية والتثقيف، حين فرط في المعلومة التي تعد اللبنة الأساسية التي يتم الاستناد إليها لأداء باقي الأدوار، واستعاض عن ذلك بالقوالب الجاهزة والصور النمطية والظواهر الكلامية قصد الحشد والتعبئة، فلا وقت للتفكير والتأمل.
أما وسائل التواصل الاجتماعي والغباء فيصدق عليها ما قاله الروائي الفرنسي جوستاف فلوبير "إن الأرض لها حدودها، ولكن غباء الإنسان ليس له حدود"، فيوما بعد أخيه تؤكد هذه الفضاءات، بما تطرحه من تقنيات وتطبيقات، أنها كانت وستظل المصنع الأول للغباء بلا منازع.
في سياق متصل، نشير إلى أن فلوبير كان من الأسماء القليلة التي بحثت في موضع الغباء، وقيل إنه عكف على تجميع نماذج الغباء في محاولة منه لحصرها ثم فهمها، وفك طلاسمها، وألفّ ما يعرف باسم موسوعة الغباء لكنه توفي قبل تجميعها. وقيل إن ما تسبب في موته المفاجئ في عمر 58 عاما هو كثرة إحباطه من هول ما جمعه.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون