خط الغاز الروسي إلى ألمانيا يضع أوروبا في مواجهة الحريق

خط الغاز الروسي إلى ألمانيا يضع أوروبا في مواجهة الحريق
خط الغاز الروسي إلى ألمانيا يضع أوروبا في مواجهة الحريق

مدينة لوبمين منتجع خلاب على ساحل بحر البلطيق في ألمانيا، وهو بحر يتميز بشاطئ رملي طويل تحده الكثبان الرملية الناعمة وغابة صنوبر خضراء.
ويقع المنتجع على بعد بضع ساعات شمالي برلين، ويوفر للسائحين الحصول على نسخة بطاقة بريدية كاشفة عن الهدوء عبر الإطلالة على البحر.
وهذا ما سيفعله معظم الناس، لولا أسطول مراكب الحفارات التي تبحر من الميناء المحلي كل يوم، وموقع البناء الكبير المختبئ خلف أشجار الصنوبر.
كلاهما جزء من مشروع أثار خلافا حادا وقسم أوروبا من النصف، ووضع ألمانيا في مسار تصادمي مع بعض أقرب حلفائها.
في البحر، تحفر مراكب الحفارات خندقًا ضخمًا تحت الماء، يمتد في خط مستقيم في اتجاه موقع البناء على الأرض.
إذا سار كل شيء حسب الخطة، فإن هذا الخندق سيضم قريباً خط أنابيب ينقل أكثر السلع المثيرة للجدل في السياسة الأوروبية اليوم: الغاز الروسي.
خط أنابيب نورد ستريم 2 هو قيد التخطيط منذ عام 2015، ومن المقرر الانتهاء منه أواخر عام 2019.
ويقول المدافعون عن المشروع إنه منطقي تماما من الناحية التجارية: خط الأنابيب سيربط أكبر مصدِّر للغاز الطبيعي في العالم بأكبر اقتصاد في أوروبا، ما يرفع إلى الضعف قدرة الخط الحالي عبر بحر البلطيق أيضاً، نورد ستريم 1، الذي يعمل منذ عام 2011.
سيتمكن الخطان معا في نهاية المطاف من نقل 110 مليارات متر مكعب سنويا من الغاز الطبيعي، وهو ما يكفي لتلبية نحو ربع إجمالي الطلب عبر الاتحاد الأوروبي.
يعتبر النقاد خط الأنابيب – ودور ألمانيا فيه – بمنزلة خيانة وحماقة جيوسياسية من الدرجة الأولى.
وقد شجبت بلدان مثل بولندا وأوكرانيا ذلك، باعتباره محاولة سافرة لتهميش خطوط أنابيب غاز تمر عبرهما – وحركة طائشة ستتركهم وبقية أوروبا تحت رحمة موسكو.
المفوضية الأوروبية هي جهة أخرى تعارض مشروع نورد ستريم، حيث تجادل بأن المشروع يقوض مساعيها لتحقيق استقلال أكبر في مجال استيراد الطاقة عبر الرهان على التنويع المتزايد للإمدادات من مصادر مختلفة.
ومع ذلك، فإن أكبر خصم عنيد للمشروع يجلس في واشنطن. أوضح الرئيس الأمريكي دونالد ترمب مراراً وتكراراً أنه يريد إيقاف المشروع الذي تبلغ قيمته 9.5 مليار يورو – وأنه مستعد لفرض عقوبات صارمة لتحقيق ذلك الهدف.
في الأسبوع الماضي، شن ترمب هجومًا عنيفًا على خط الأنابيب الجديد في قمة النيتو في بروكسل، محذراً من أن ألمانيا أصبحت "رهينة لروسيا؛ لأنها تحصل على كميات كبيرة من احتياجاتها من الطاقة منها".
كيرستن ويستفال، المحللة المختصة بالطاقة في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، تشبِّه خط نورد ستريم 2 بأنه مثل "بصلة" – تقشر طبقة بعد طبقة من الجدل، لتكتشف أن المرحلة التالية أكثر إثارة للجدل من سابقتها.
غير أن خط الأنابيب، في جوهره، يطرح سؤالا بسيطاً، على الرغم من أنه بالغ الأهمية: هل يجدر بالغرب أن يثق بروسيا أم لا؟
تقول ويستفال: "أدى ضم روسيا إلى شبه جزيرة القرم عام 2014 والحرب في أوكرانيا إلى تغيير كل شيء. بالنسبة لكثير من الناس في الغرب، اختفت فكرة أن روسيا شريك يمكن الاعتماد عليه.
هناك شك: في ضوء كل التوترات الجيوسياسية، هل يجب علينا توسيع علاقة الطاقة لدينا مع روسيا؟ هل يجب أن نراهن، على الرغم من كل شيء، على إبقاء القناة مفتوحة؟"
لأسباب تاريخية إضافة إلى المصلحة الذاتية الاقتصادية المجردة، يغلب على هذا السؤال أن يعثر على إجابة في ألمانيا مختلفة عن تلك الموجودة في البلدان الأوروبية الأخرى والولايات المتحدة.
وقد لخصها بدقة أكسل فوجت، عمدة مدينة لوبمين، الذي هو – مثل معظم السكان المحليين – من المؤيدين المتحمسين لخط نورد ستريم. ويقول: "بالنسبة لنا، لطالما كانت روسيا شريكا موثوقا في الأعمال. ونحن لا نرى أي علامة على أن هذا يتغير على الرغم من كل ما يحدث على المسرح السياسي الكبير".
ويضيف رئيس البلدية: "بالنسبة إلى لوبمين، فإن خط نورد ستريم يعني الوظائف، وهذا يعني أن هناك عقودا للشركات المحلية، ويعني مزيدا من ضرائب الشركات".
ويضيف أن هذه المودة تجاه روسيا تتجاوز المكاسب الاقتصادية، وهي علامة على العلاقات التي تم تشكيلها في الوقت الذي كانت فيه لوبمين جزءاً من ألمانيا الشرقية الشيوعية. ويقول: "قبل إعادة التوحيد، كانت هناك علاقة وثيقة جدًا مع روسيا... ويريدون البقاء على هذا النحو".
في الوقت الحالي، يتمتع المشروع بالدعم الرسمي من الحكومة الألمانية (إضافة إلى الدعم غير المشروط من الكرملين). بيد أن أصوات جوقة النقاد في برلين، بما في ذلك داخل الحكومة، تتعالى باستمرار.
يقول نوربرت روتجن، وهو عضو بارز في البرلمان عن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي الحاكم: "خط نورد ستريم 2 أحدثَ الفُرقة في الاتحاد الأوروبي، وهذا لا يمكن أن يكون في المصلحة الوطنية لألمانيا. أهم دور تقوم به ألمانيا هو تجميع أوروبا، وليس التفريق بينها. في المقابل، من دون ألمانيا، لن تكون هذه الفُرقة قائمة".
في وقت سابق من هذا العام، أشارت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إلى تحول دقيق مهم في الخطاب الرسمي. وقالت إن "نورد ستريم 2" ليس "مجرد مشروع اقتصادي". وأضافت أنه يتعين أيضا دراسة العوامل السياسية، خصوصا الحاجة إلى الحفاظ على وضع أوكرانيا كدولة عبور للغاز الروسي.
تكسب كييف ما يصل إلى ثلاثة مليارات دولار من رسوم العبور سنوياً، وفقاً لـ"نفتوجاز"، الحكومية للغاز في أوكرانيا، وهو مال تحتاجه هذه الحكومة المتعثرة بشدة.
كما تعمل وصلة الغاز كدافع للبلدين لإبقاء نزاعهما العسكري والسياسي ضمن السيطرة. عندما يتوقف تدفق الغاز – كما جرى، باختصار، عامي 2006 و2009 – سيخسر كلا الجانبين.
بعد اجتماع فلاديمير بوتين مع نظيره الأمريكي، قال الرئيس الروسي إن موسكو مستعدة "لتمديد عقد العبور هذا إذا تمت تسوية النزاع بين شركتي جازبروم ونفتوجاز".
ومع ذلك، فإن الالتفاف على الشبكة الأوكرانية هو بالضبط هدف مشروع نورد ستريم، كما أوضح المسؤولون الروس.
سيسمح خط الأنابيب الجديد لروسيا بقطع وسيطها عن معظم شحنات الغاز المتجه إلى الغرب – وتجنب الخلافات من النوع الذي يدور حول المدفوعات والشروط مع كييف التي اندلعت في السنوات الأخيرة.
وحقيقة أن خطوط الأنابيب الأوكرانية بحاجة ماسة إلى الإصلاح والاستثمار توفر حافزاً إضافياً لمشروع نوردستريم.
بالنسبة للتحالف الأوروبي الروسي، الذي يتحمل تكلفة المشروع، فإن خط نورد ستريم 2 هو، قبل كل شيء، استثمار يبشر بالخير.
وعلى خلاف خط نورد ستريم 1، الذي كان مشروعا مشتركا حقيقيا بين روسيا وأوروبا، سيكون خط الأنابيب الجديد مملوكا بالكامل لشركة جازبروم، مجموعة الغاز الروسية التي تسيطر على صادرات خطوط الأنابيب الروسية، إلا أن نصف التمويل يقدمه تكتل من خمس شركات أوروبية هي: يونيبر وفتنرشال من ألمانيا، وشركة أو إم في OMV من النمسا، وشركة إنجي من فرنسا، و"رويال داتش شل".
يقوم مؤيدو مشروع نورد ستريم بِرهان بسيط ينطوي على مكافآت ضخمة، فهم يعرفون أن خط الأنابيب سيبدأ الإنتاج عام 2019، حين تبدأ إمدادات الغاز الأوروبي من بحر الشمال في التضاؤل.
وتقدر شركات التكتل أنه حتى في حالة استقرار الطلب الكلي على الغاز أو انخفاضه بشكل طفيف خلال العقدين المقبلين، فإن أوروبا ستضطر إلى إيجاد 120 مليار متر مكعب إضافي من الغاز الطبيعي بحلول عام 2035.
وسيتم ملء هذه الفجوة عن طريق شحن كميات كبيرة من الغاز الطبيعي المسال من بلدان مثل الولايات المتحدة، أو من خلال خطوط الأنابيب من روسيا.
نقص الغاز الذي يلوح في الأفق أثار اندفاعاً لبناء البنية التحتية، في الوقت الذي يتدافع فيه الموردون للحصول على نصيب من ذلك. على مقربة من لوبمين، على الجانب الآخر من الحدود البولندية، تقف واحدة من عدد من محطات الغاز الطبيعي المسال الجديدة التي برزت على سواحل أوروبا في السنوات الأخيرة.
ويعمل معظمها بأقل من طاقتها، وهذ دلالة على أن غاز خط الأنابيب أرخص بنسبة تصل إلى 25 في المائة من الغاز الطبيعي المسال.
يغلب على ظن بعض رجال الأعمال والمسؤولين الألمان أن هذا هو أحد الأسباب الأساسية لمعارضة مشروع نورد ستريم 2. ويقولون إن الولايات المتحدة تحاول ببساطة تعزيز الآفاق التجارية للغاز الطبيعي المسال، بزيادة صادراتها من الغاز الصخري.
كانت تلك هي الشكوى الرئيسة في خطاب مفتوح وقعه تحالف بين الأحزاب من كبار المشرعين الألمان في وقت سابق من هذا العام.
وقال الخطاب: "ليس من مهمة الاتحاد الأوروبي إبقاء المنافسين المحتملين بعيداً عن ظهور الشركات الأمريكية التي تريد تسويق الغاز الطبيعي في أوروبا. الغاز السائل الأمريكي مرحب به في سوق الغاز الأوروبية، لكن عليه أن يواجه المنافسة تماماً مثل الآخرين".
لماذا يجب على المستهلكين والشركات الألمانية والأوروبية دفع علاوة مقابل الغاز غير الروسي؟ الجواب الواضح، كما يقول النقاد، هو العوامل السياسية.
ومن رأيهم أن موسكو تشارك في حملة واسعة لدق إسفين داخل التحالف الغربي، وزعزعة استقرار الديمقراطيات الأوروبية، وإعادة تأكيد نفوذ موسكو في أوروبا الشرقية ودول البلطيق.
أحد أقوى الأسلحة في تلك الحملة هو سيطرة روسيا على موارد الطاقة – واعتماد أوروبا عليها. القلق بشأن ما قد يحدث إذا أوقفت روسيا الصنابير يلقي بظلال كبيرة على العقول الأوروبية منذ سنوات. عليه، فإن مشروع نورد ستريم 2 سيفاقم هذه المخاوف لتصبح حتى أكثر حدة من قبل.
يقول روتجن: "في العام الماضي، تلقت ألمانيا أكثر من 40 في المائة من إمدادات الغاز من شركة جازبروم. إذا قمنا الآن بمضاعفة السعة عن طريق نورد ستريم 2، فسنشهد زيادة أخرى كبيرة في الإمدادات من روسيا. أعتقد أن هذا يدفعنا إلى منطقة خطرة، من حيث سياسة الطاقة والسياسة الخارجية على حد سواء. سنخسر قدرا من استقلالنا".
هناك، كما يضيف، اعتبار آخر: "نظام بوتين كله يعتمد على ركيزتين: الجيش وتصدير موارد الطاقة. من خلال تثبيت هذه الدعامة الثانية، تعمل ألمانيا أيضًا على تثبيت نظام بوتين".
تقول شركة جازبروم إنه بالنظر إلى أن حقول الغاز الجديدة تقع شمال غربي روسيا، فإن خط نورد ستريم 2 سيوفر 2100 كيلومتر من المسافة للعبور إلى ألمانيا مقارنة بالطريق الأوكراني، ويخفض الانبعاثات 61 في المائة.
كما حذرت روسيا من أن التهديدات الأمريكية ضدها هي غير قانونية. وقال المتحدث باسم بوتين، دميتري بيسكوف، هذا الشهر: "نعتقد أن أي عقوبات ضد الشركات المشاركة في مشروع دولي لن تكون قانونية. هذا مشروع تجاري دولي حصري وخالٍ من أي دوافع سياسية؛ لأنه يستند إلى مبادئ المكسب التجاري للبلدان التي تشارك فيه".
الحجة الجيوسياسية ضد نورد ستريم 2 تُطرح بكثافة خاصة في عواصم أوروبا الشرقية مثل وارسو، حيث الصدى التاريخي القوي من مخاوف أن الاتفاق الروسي - الألماني تذكير (بالعمل على إعادة على تقسيم أوروبا).
وقد عبّر رادوسلاف سيكورسكي، وزير الخارجية البولندي السابق، عن هذه المشاعر بعبارة صريحة بلا مواربة؛ حيث شبَّه مشروع نورد ستريم باتفاق 1939 بين هتلر وستالين لتقسيم أوروبا الشرقية.
في برلين، يفضل المسؤولون الإشارة إلى سابقة تاريخية مختلفة: "السياسة تجاه الكتلة الشرقية" على أيام فيلي براندت، المستشار الألماني الذي دفع في اتجاه التقارب مع الكتلة السوفيتية أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات.
من الناحية الاقتصادية، أدت هذه السياسة إلى ظهور صفقة "الغاز مقابل الأنابيب" بين ألمانيا الغربية والاتحاد السوفياتي. وعلى الرغم من المعارضة الأمريكية الشرسة آنذاك، وافق الألمان على شحن الفولاذ والأنابيب إلى الاتحاد السوفياتي مقابل واردات الغاز الطبيعي.
وصلت أول شحنة غاز روسية إلى ألمانيا عام 1973، وارتفعت الواردات باستمرار في العقود التي تلت ذلك، دون أن تتعرقل بسبب الحرب الباردة. بالنسبة لمؤيدي مشروع نورد ستريم 2، هذه التجربة تحمل درسًا مهمًا. هم يرون أن علاقة الغاز ليست علاقة تقوم على الاعتماد الغربي على روسيا، بل على الاعتماد المتبادل بين مشتر وبائع. تحتاج موسكو إلى المدفوعات الغربية بقدر ما يحتاج الغرب إلى الغاز الروسي.
يقول ماتياس بلاتشك، وهو قائد سابق للحزب الديمقراطي الاجتماعي في ألمانيا، والآن رئيس المنتدى الألماني الروسي، وهو جمعية مقرها برلين تهدف إلى تعزيز العلاقات الثنائية: "أنظُرُ إلى مشروع نورد ستريم على أنه عامل استقرار للعلاقة بين روسيا والغرب. حتى في أوج الحرب الباردة، كان الروس ينقلون الغاز باستمرار. لماذا يجب تغيير هذا الآن؟ علينا أن نتذكر دائما أنهم بحاجة إلى المال".
ومع اشتداد الجدل السياسي، فإن المشروع نفسه يحقق تقدما مطردا. على مدى العامين الماضيين، جمع تكتل الشركات مخزونات هائلة من أنابيب الصلب المطلية بالخرسانة، وأودعها في نقاط مختلفة على بحر البلطيق.
بعد بضعة أسابيع من الآن، سيبدأ العمال في أعمال اللحام على الأنابيب التي يبلغ طول الواحد منها 12 مترا عند الساحل، وبعد ذلك يقومون بإنزالها في الماء. وحيث إن هناك قدرا كبيرا من الاستثمارات الآن، ومع حصول المشروع على جميع الرخص التنظيمية باستثناء واحدة، فإنه حتى النقاد يعترفون بصعوبة وقف المشروع الآن.
وطالما أن المشروع لا يصطدم بعوامل اضطراب جديدة من الناحية السياسية والفنية، تعتزم شركة جازبروم فتح الصنابير من الطرف الروسي لخط الأنابيب، الذي يبلغ طوله 1200 كيلومتر نهاية عام 2019. على أن الأثر على الطرف الآخر من خط الأنابيب ملموس منذ الآن.
تقول وستفال: "من حيث الجانب التجاري، هناك حجة يمكن تقديمها لمصلحة خط نورد ستريم 2، لكن من الجانب السياسي، من الواضح أن ألمانيا ستدفع ثمنا باهظا".

الأكثر قراءة