Author

في إدارة الأزمات

|

"بيدي لا بيد عمرو"، مثل يتكرر سماعه من قبل كثير من الناس، وفي بعض الظروف التي تستدعي اتخاذ قرار، أو فعل معين، حتى لو كان القرار، أو الفعل قاسيا على النفس، ونتيجته مدمرة، ولهذا المثل قصة تعود للملكة الزباء، ملكة تدمر، حيث أرادت الانتقام لأبيها جذيمة الأبرش، بعدما قتله ملك الحيرة عمرو بن الأظرب، وتم لها ذلك بأن دعته للزواج منها وتوحيد المملكتين، وعند حضوره قتلته، لكن خليفته ابن أخته عمرو بن عدي أراد الانتقام منها بحيلة انطلت عليها، حيث أرسل لها مستشاره مدعيا أنه عذب، وقطع أنفه، ويستجير بها، فقربته، فلما عرف القصر ومداخله ومخارجه وتفاصيل حياتها، ادعى أن له تجارة في الحيرة، ويريد الذهاب لإحضارها فسمحت له، وعاد فأعطى تفاصيل قصرها وحياتها لعمرو بن عدي الذي جهز جيشا فغزا تدمر، فلما أرادت الهروب، وجدت عمرو في مخرج الهروب من القصر في انتظارها فاضطرت أن تبلع خاتمها المسموم مطلقة عبارتها "بيدي لا بيد عمرو"، أي أموت بيدي، ولا أموت على يد عمرو.
هذه العبارة التي سارت مثلا يمكن أن يوظفه بعضهم في الإدارة، خاصة في إدارة الأزمات للخروج من مأزق يمر به من هو على رأس المنظمة، أو السلطة حين يحتاج الأمر إلى قرار أو تغيير ما، وقد يكون الرئيس غير مقتنع بالتغيير المراد إلا أن ضغوط مجلس الإدارة، أو أي جهة لها سلطة على هذه المؤسسة تمارس عليه، لذا يلجأ لاتخاذ القرار بنفسه، طالما أنه شعر أن التغيير حادث لا محالة، به أو بدونه، معللا، ومبرئا نفسه أمام الآخرين بهذا المثل.
في سنة من السنوات كنت أرأس لجنة التوصيات لأحد مؤتمرات الجمعية السعودية للعلوم التربوية والنفسية، وتفاجأت بأحد الزملاء في مجلس إدارة الجمعية يقترح علي إدراج توصية في موضوع مهم، ويؤثر في كثيرين في التعليم العالي، رغم أن الموضوع لم يطرح للنقاش، ولم يقدم به ورقة بحثية، لكني وجدت نفسي مضطرا لرفض الطلب معللا ذلك بعدم طرح الموضوع خلال الجلسات العلمية، ولآثاره السلبية في كثيرين، وكي يقنعني قال إن هناك لجنة عليا مشكلة وسيتخذ القرار بنا أو بدوننا، وكان ردي أن يتخذ القرار بدوننا أفضل من أن نفتقد مصداقيتنا العلمية عندما نوصي بتوصية حساسة، وذات تأثير كبير في قطاع الشباب، ولا يوجد من البيانات العلمية، والإحصائيات ما يدعم التوصية. وانتهى الأمر عند هذا الحد، ولم تطرح توصية، ولم يتخذ قرار بشأن الموضوع حتى يومنا هذا، رغم مرور ما يزيد على 20 سنة على هذا الموقف.
أوردت هذا المثل لأؤكد أن بعضهم قد يجد نفسه في موقف ضاغط لاتخاذ قرار في أحد المواضيع، وقد تنطلي عليه عبارة "بيدي لا بيد عمرو"، ظنا منه أنه باتخاذه القرار مجاراة، أو لإظهار قبول الموضوع، وهو في حقيقة الأمر، وفي قرارة نفسه خلاف ذلك لا يؤيد، فالقرار لا يخدم المصلحة العامة، فبعض القرارات قد تبدو مناسبة، ونقدم على اتخاذها، لكن آثارها كارثية، ومن ثم لن ينفع عمرو الذي قمنا باتخاذ القرار نيابة عنه، وعندما نكون في مرمى النقد، أو المساءلة، ونبحث عن عمرو لن نجده، ولو وجدناه لن يفزع لنا، ولن ينقذنا من الموقف.
قراءتي لآثار، ونتائج كثير من القرارات التي يتخذها بعضهم، وهم في نشوة الإدارة، والسلطة التي يتمتعون بها، وهم على رأس الشركة، أو المؤسسة، أوصلتني إلى عدم صلاحية الاعتماد على هذا المثل في بعض الحالات، ولذا رأيت أن التفكير في النتائج والمآلات التي تنتهي بها بعض القرارات تستوجب تعديل المثل ليكون "بيد عمرو لا بيدي"، فلماذا أكون الشخص السيئ عند الناس عندما أتبرع باتخاذ قرار أو إجراء نيابة عن عمرو، والأسلم أن أترك الأمر لعمرو ليتخذ ما يراه.
النتيجة التي انتهت إليها الملكة الزباء أنها فقدت حياتها بيدها تجنبا للموت على يد عمرو بن عدي، وما من شك أن قرارها هذا جاء في حالة أزمة نفسية تستوجب اتخاذ قرار بصورة عاجلة ولا وقت للتفكير العميق والشامل، لذا أعتقدت خلالها أن الموت بيدها أرحم من الموت على يد عدوها، وقد لا تكون النتيجة الحتمية الموت، إذ قد يحدث صلح أو تنازل عن شيء من الأشياء التي ليس لها ذلك الأثر الكبير.
ذهبت الزباء بقرار اتخذته، ونفذته بنفسها، وذهبت معها مملكتها، وها هي تدمر إحدى محافظات سورية في العصر الحاضر تحتفظ ببعض آثارها، وأطلالها التي أهلتها لتكون من الآثار العالمية، حسب اليونسكو، إلا أنني لست متأكدا إن كان من بين هذه الآثار والأطلال شيء يعود للملكة الزباء، أو أبيها، رغم أن التاريخ احتفظ لها بهذا المثل الذي يؤرخ كيفية وفاتها.

إنشرها