Author

الحد الأدنى للرواتب .. سهولة الفكرة وتعقيدات التنفيذ

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى
في مقالات سابقة، كتبت بوضوح عن مشكلة الرواتب في الاقتصاد السعودي، وصعوبة الربط بين مستويات الإنتاج والراتب، وهذه الصعوبة في تفسير الراتب وربطه بالإنتاج ليست في القطاع الحكومي، بل حتى في القطاع الخاص أيضا، ولعلها مشكلة عميقة في بناء الثقافة الاقتصادية في المجتمع من حيث فهم الربط بين القيمة والسعر، وهذه نلاحظها في شتى مجالات الحياة، وليست الرواتب سوى جزء بسيط من مظاهر هذه المشكلة. وفي مسألة الرواتب، أشرت من قبل إلى الفجوة بين القطاعين العام والخاص، أو بين قطاعات وشركات القطاع الخاص نفسه، وللحقيقة لم أقف على تفسيرات واضحة لهذه الفجوات بين مستويات الرواتب؛ فمتوسط الرواتب في القطاع الحكومي يصل إلى عشرة آلاف ريال، بينما في القطاع الخاص نجدها تختلف حسب الجنسية، فالسعودي يحصل على خمسة آلاف ريال تقريبا عند المتوسط، وهذا منخفض بشكل غريب جدا؛ نظرا لأننا نعرف أن الرواتب عند مستوى التنفيذيين تصل إلى مئات الآلاف شهريا، ولكن الانخفاض في المتوسط يشير إلى أمرين معا، أن القلة القليلة من السعوديين تعمل عند المستوى التنفيذي ذي الراتب المرتفع، وأن كثيرا عند مستوى أقل بكثير من خمسة آلاف. لهذا فإن توازن المتوسط حصل عند خمسة آلاف، ما يدل بوضوح على حجم التفاوت في الرواتب. إذن؛ نحن أمام مشكلة معقدة جدا، وقبل الحديث عن أي محاولة لتحديد حد أدنى للرواتب يجب علينا أولا فهم سلوك الرواتب نفسه، ونفسر أسباب التفاوت، وكيف يتم تحديد الراتب، وما المحددات الأساسية. قد يقول قائل: وماذا يمنع إذا تم تحديد حد أدنى هكذا بشكل تقديري لرفع المستوى المعيشي للناس؟ الرد أن المسألة ليست بهذه البساطة في الاقتصاد، فمن المعروف علميا حتى عمليا أن رفع الأجور دون معرفة مسبقة وكافية سيقود إلى تضخم وارتفاع الأسعار، ما يؤدي إلى مشكلة أكثر تعقيدا، وإلى فقدان العملة قيمتها الأساسية. فالأصل أن الراتب مرتبط بمستوى الإنتاج، وليس أي إنتاج بل الإنتاج الذي يحفز الطلب، وبالتالي إنتاج يمكن بيعه ويدر عوائد، ويتم توزيع هذه العوائد على جميع من أسهم في الإنتاج كل بقدر مساهمته، ومن ذلك العمال كرواتب حتى الآلات كصيانة ومخصصات إهلاك، فإذا ارتفعت مستويات الجودة في الإنتاج زادت القيمة فيها، وهذا معناه زيادة العوائد، ما يشكل تفسيرا طبيعيا ومقنعا لزيادة رواتب العمال الذين أسهموا في رفع الجودة. وعندما نعود بالتاريخ لفهم المشكلة الاقتصادية التي نشبت في بريطانيا إبان حكم "تاتشر"، نعرف كيف كان الصراع بين حزبها والاتحادات العمالية لرفع الرواتب، بينما هي تطلب من جانبها رفع الإنتاج، لهذا فعندما نصل إلى مستوى كاف وعميق من فهم العلاقة بين الراتب والإنتاج في المملكة، ما يسهل علينا تجنب التضخم إذا رفعنا الرواتب، يمكننا حينها أن نضع حدا أدنى لهذه الرواتب، أو حتى نناقش هذه المسألة، ولكن والحال غير ذلك، فإن أفضل حل متوافر الآن هو أن نحتكم إلى سياسة العرض والطلب الطبيعية، التي تمنح عدالة ذاتية أفضل. ومع ذلك، فإن كثرة الحديث عن الرواتب تعود أساسا إلى أن قضية العرض والطلب في السوق السعودية غير عادلة حتى الآن، ذلك أننا نواجه مستويين من العرض في السوق، فالعرض من جانب العمال السعوديين يأتي بأجر أعلى من العرض المقدم من العامل الأجنبي ذي الأجر المنخفض، ومرة أخرى تأتي هذه الفجوة بلا مبررات كافية سوى ما يقوم به العمال الأجانب من إغراق كبير للسوق، وتقبل أجور تقل بكثير عن مستوى الإسهام الحقيقي في الإنتاج، وهذا إن كان يبدو ظلما، إلا أن العمال الأجانب يرونه كافيا مقارنة بالمستويات المعيشية في بلادهم، وعدم توافر فرص للعمل والحياة الكريمة إلا في المملكة، لكن بالنسبة للعامل السعودي فإن هذه المستويات من الأجور غير عادلة، ولا تعكس مستوى الإنتاج المقدم منهم، ولذلك فإن الرضا بالبطالة خيار أفضل "أحيانا" من الرضا بالظلم وعدم العدالة في الراتب. لذلك نحن في حاجة ماسة إلى إصلاح العرض في سوق العمل قبل الخوض في مشكلة الحد الأدنى، التي إن تم فرضها على السوق فلن تتسبب إلا في مزيد من البطالة والفجوات. ومع أهمية هذه القضايا، فإننا أيضا بحاجة إلى إصلاح آلية احتساب الراتب والعقود في الأجور، التي يجب أن يعاد تقديرها وفقا لساعات العمل الأسبوعية، وهي التي تسمى الأجور بدلا من الراتب، الذي يقدر ويدفع على أساس شهري دون ارتباط واضح متفق عليه بقيمة ساعات العمل وعددها، فنظام الأجور الذي يحدد الراتب فيه وفقا لقيمة ساعة العمل يجعل من السهل علينا ربط الأجر بالإنتاج، ومن ثم إصلاح جميع المشكلات الأخرى المرتبطة مثل مستويات العرض ومن ثم الوصول إلى حد أدنى للأجر، وإذا تم حل هذه الإشكالية بالذات، وأعني بها تقييم الأجر بالساعة، فإنه يمكننا عندها أن نصنف الأعمال والحد الأدنى من الخبرات التي تتطلبها، ومن ثم يتم وضع حد أدنى لأجر الساعة عند كل تصنيف، أو نضع حدا أدنى لأقل تصنيف، وعندها نعتبره الحد الأدنى للرواتب، ولكن يجب أن يتم تطبيق ذلك بغض النظر عن الجنسية وعن القطاع الذي يتم العمل فيه. وهكذا فإن مناقشة الحد الأدنى للرواتب تتطلب قاعدة متكاملة من الحلول الاقتصادية والإصلاحات العميقة لسوق العمل، سواء في القطاعين الخاص أو العام، كما تتطلب إصلاحا لنظام الأجور بشكل كامل.
إنشرها