تصوير الواقع لا يوجب الدعوة إليه

يهتم المتخصصون في علوم سلوكية متنوعة بتصوير أو وصف وتفسير السلوك وما يحيط به من أحداث، استنادا إلى أسس ومنهجية علمية حيادية. تصوير الواقع لا يستند، بطبيعته، إلى ما ينبغي أن تكون عليه الأمور، وهنا الإشكال. يفهمها كثيرون على أنها بشرى، كأنهم يقولون بشرنا بالفعل الماضي أو "هاه" بشرنا بفعل الأمر. ولكن المتحدث النزيه في واد آخر. هو يقصد ويعني أنه يتحدث عما رأى، أو عما يتوقع حدوثه، سواء أعجب السامعين أو لا، فإن لم يتفق كلامه مع هوى وأماني كثيرين، حملوا ما كتب على أنه معبر تعبيرا أكيدا عن سوء نية ورغبة من المتخصص أو الكاتب في أن تكون الأمور كذلك. هذا النمط من التفكير يصعب عليه التفريق بين الأماني وتصوير الواقع بحسب ما تعلمه وفهمه المتخصص. لا شك أن غير الأنبياء ليسوا معصومين من الوقوع في الخطأ والهوى مهما بلغوا من علم، لكن لا يصلح أن نفترض أن ذلك هو الأصل، فهذا سوء ظن، وصاحبه وقع في الهوى الذي ينهى عنه.
مثلا، عندما يزيد الإنفاق الحكومي أو تصدر قرارات إنفاق استثنائية كبيرة، فهي بطبيعتها ستعمل على رفع الأسعار؛ لأنها تقوي الطلب. هذه التوقعات تعكس قراءة وفهما لتأثير القرارات في الأسعار، ومن ثم ينبغي ألا يفهم هذا التوقع على أنه رغبة في ارتفاع الأسعار. طبعا بافتراض عدم تغير وقتها في المتغيرات والأوضاع الأخرى؛ لأنه ممكن حدوث عوامل في وقت واحد، ولكنها متضاربة التأثير، بعضها يدعم رفع الأسعار وبعضها يدعم خفض الأسعار، ومن ثم يكون النقاش في أيها أقوى تأثيرا.
وزيادة في التوضيح، في منهجية البحث مسلكان: المسلك التقريري والمسلك المعياري.
المسلك التقريري أو الإيجابي أو الحيادي يقوم على أساس تفسير ما هو كائن وكيف كان. هذا التحليل أو التفسير يستند إلى منهجية تقوم أولا على أصول مسلم بها، كحب الإنسان المال حبا في مجال الاقتصاد والمعيشة. هذا الحب وكما يؤكده نص القرآن، ليس خاصا بفئة من الناس كالتجار، بل يشمل جنس البشر. كما تستند تلك المنهجية إلى النظرية الاقتصادية وتفاصيلها في فهم السلوك الاقتصادي، كما تستند إلى أدوات قياسية في فهم وقراءة البيانات بغض النظر عن الرأي الشخصي فيها، إلا أنه ليس من الضروري أن يوصل المسلك التقريري إلى تفسيرات صائبة، فالإنسان ليس معصوما عن الخطأ إلا من عصمه الله.
وتفسير ما هو كائن يساعد على فهم ما يرى أو ما يتوقع أنه سيكون، بغض النظر عن الرغبة فيه أو منه؛ أي أن ناقل الخبر أو الوصف لا يعني لزوم أنه مقتنع بما ينقل. وفي هذا اشتهرت عبارة «ناقل الكفر ليس بكافر».
والمسلك الثاني المعياري أو الحديث عما ينبغي أنه كان وما ينبغي أن يكون، وهذا شأن عام تشترك فيه كل فئات المجتمع؛ حيث يحق لهم أن يبدوا آراءهم فيما ينبغي أن يكون.
المسلك أو المنهج التقريري لنا أن نعده من قبيل الكلام الخبري، والآخر المعياري من قبيل الإنشاء.
وللتوضيح لبعض القراء، الكلام في علم المعاني "أحد علوم البلاغة"، ينقسم إلى قسمين: خبر وإنشاء.
فالخبر "من حيث هو دون نظر لقائله" ما يصح أن يقال لقائله إنه صادق فيه أو مصيب، وعكسه أنه كاذب "إن كان متعمدا أو نحوه" أو غير مصيب، فإن كان الكلام مطابقا للواقع كان قائله مصيبا، وإن كان غير مطابق له كان قائله كاذبا أو غير مصيب.
والإنشاء ما لا يصح أن يقال لقائله إنه صادق فيه "مصيب" أو كاذب "غير مصيب"، بل يعبر عن رغبة، كقولنا "نوصي الحكومة بأن تفعل كذا"، وقولنا "لعل السماء تمطر".
تصوير وتفسير السلوك "ويدخل في التفسير التعليل، ويبنى على التفسير تنبؤ ماذا سيحدث مستقبلا" من قبيل الخبر.

أمثلة:
الإنسان أناني، يقدم مصالحه على مصالح غيره.
في ظروف زمانية ومكانية محددة، يرتفع الطلب عند انخفاض الأسعار.
قلّ المطر فقلّ العرض من الخضراوات، فغلت أسعارها.
وردت نصوص تخبر عن سلوكيات وطبائع اقتصادية في الناس مثل قوله تعالى: "وإنه لحب الخير لشديد"، وقد فسر الخير بالمال. خطاب الشارع هذا "وأمثاله" يصور سلوكا اقتصاديا، وهذا التصوير يدرك أيضا بمجرد التأمل والنظر، ولذا لا يعد حكما شرعيا.
باختصار؛ تصوير أو تفسير الوقائع الاقتصادية وتوقع ما تؤول إليه الأمور لا يعني بالضرورة رغبة في أن تكون الأمور كذلك. وتقييم التفسير وقدرات صاحبه تتطلب معرفة جيدة بمنهجية وأدوات هذا التفسير، وبالله التوفيق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي