تصدع هائل في هيكلة اقتصاد تركيا .. التضخم ينفلت من عقاله

تصدع هائل في هيكلة اقتصاد تركيا .. التضخم ينفلت من عقاله

في الوقت الذي تتهاوى فيه الليرة التركية وتخسر 20 في المائة، من قيمتها في خمسة أشهر، يتجه الناخبون الأتراك إلى صناديق الاقتراع في 24 حزيران (يونيو) المقبل للإدلاء بأصواتهم في واحد من أكثر الانتخابات الرئاسية جدلية في تاريخهم الحديث.
ومع هذا فإن وسائل الإعلام المحلية والدولية تتابع القليل من الشأن الانتخابي، بينما تركز جل اهتمامها على الأوضاع المضطربة للاقتصاد التركي.
فلم يعد يمر يوم واحد إلا وخبر سيئ يحتل مقدمة الأخبار التركية خاصة عملتها الآخذة في الانهيار.
وانهيار الليرة التركية دفع بالرئيس رجب طيب أردوغان إلى مطالبة أنصاره ببيع مدخراتهم من الدولارات والعملات الأجنبية، لإنقاذ الليرة والاقتصاد التركي معها.
ولكن هل تنحصر مشكلة الاقتصاد التركي في التراجع الشديد في قيمة الليرة، أم أن المأزق الاقتصادي أكثر تعقيدا من ذلك؟، حيث إن صندوق النقد الدولي وخلال الشهر الماضي أصدر تحذيرا بشأن الاقتصاد التركي ومصيره.
ودفع التحذير بعديد من الاقتصاديين إلى التساؤل إلى أين يتجه الاقتصاد التركي في ظل أردوغان؟
وتشير الدكتورة ماري هايد أستاذة الاقتصادات الناشئة إلى أن تركيا سبق وأن شهدت عديدا من الأزمات الاقتصادية الحادة، لكن تلك الأزمة تختلف عن باقي الأزمات، مبينة أنها إذا تواصلت فقد تسفر عن تصدع هائل في البنية الاقتصادية التركية.
وتقول لـ"الاقتصادية"، إن "الليرة التركية خسرت خلال الأشهر الخمسة الماضية 20 في المائة من قيمتها، كما أنها تواصل الانخفاض، لكن المشكلة لا تقف عند الليرة، وإنما تتعلق بالنهج الاقتصادي ذاته، وهو ما يجعل تلك الأزمة تختلف عن سابقاتها، ففي الأزمات السابقة تصدت تركيا لها وهناك حالة من الالتفاف الشعبي حول الدولة، وجهودها للخروج من الأزمة، هذا الوضع غائب الآن تماما، فتركيا مجتمع منقسم على ذاته، والصراع السياسي محتدم بشكل دموي وعنيف، وهذا يجعل إمكانية تطبيق الرؤية الاقتصادية للرئيس أردوغان محل شك، كما أن بعض أجزاء تلك الرؤية تتناقض مع مبادئ علم الاقتصاد".
وتضيف "المشكلة الثانية هي خلط السياسي بالاقتصادي في تركيا، فالرئيس أردوغان في حالة من العناد المضر بمستقبل تركيا الاقتصادي، هذا العناد لا يقف عند حدود الاختلاف مع المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدولي، وإنما مع محافظ البنك المركزي التركي ذاته، ويرفض كل النصائح التي تقدم له للحد من الانهيار الاقتصادي، وهو ما دفع بالبنك المركزي إلى تحديه بشكل سافر، فبينما يطالب أردوغان بخفض أسعار الفائدة، أعلن البنك المركزي في اجتماع طارئ يوم الأربعاء الماضي، رفع معدل الإقراض، ورغم أن القرار أسهم في تحسن طفيف في سعر الليرة إلا أنه تحسن مؤقت لم يدم طويلا، ليعكس عمق الأزمة الاقتصادية في البلاد".
وقد يصعب إنكار أن تركيا من بين أكثر الاقتصادات الناشئة التي ازدهرت خلال العقد الماضي، فبعد الأزمة المالية عام 2008، كانت البنوك المركزية في البلدان المتقدمة تضخ كميات ضخمة من المال في النظام الاقتصادي العالمي للحيلولة دون مزيد من التدهور، وكان توافر السيولة المالية للعملات الأجنبية وفي مقدمتها الدولار، فرصة ذهبية استفاد منها الاقتصاد التركي بشكل كبير، إلا أن تلك الاستفادة لم تكن مجانية، إذ ترافقت بالطبع مع نمو الدين الخارجي التركي، وعجز كبير في الحساب الجاري، وذلك بخلاف الاقتصادات الناشئة الأخرى التي أفلحت في السيطرة على العجز في الحساب الجاري، أما بالنسبة لتركيا فقد قفز العجز من 2.7 مليار دولار العام الماضي إلى أكثر من سبعة مليارات دولار في شهر كانون الثاني (يناير) المنصرم، وبات هذا العجز المتضخم يؤثر على الليرة والنمو الاقتصادي معا.
فتركيا تعتمد على الاقتراض من الخارج لتحقيق معدلات توسع اقتصادي كبيرة، ومن ثم فإن عليها كل عام تأمين سداد تلك الديون أو فوائدها أو الاثنين معا، ويبلغ ذلك نحو ربع ناتجها المحلي.
ويأتي هذا التمويل غالبا من تدفقات ما يعرف بـ" الأموال الساخنة" وهي أشكال من المضاربات المالية التي تتبخر وتختفي سريعا من الأسواق بمجرد اندلاع صدمات سياسية أو هزات اقتصادية أو احتكاكات اجتماعية أو توترات جيو- سياسية مفاجئة.
الخبير المصرفي بيكار دين يعتقد أن القيادة السياسية التركية برئاسة أردوغان، انحازت لمفاهيم الأجل القصير المرتبطة باكتساب مزيد من الشعبية السياسية، على حساب الأمد الطويل المرتبط بتنمية حقيقية لمجمل الدولة التركية ومكوناتها المختلفة.
ويقول لـ"الاقتصادية"، "معدل التضخم في تركيا بلغ نحو 13.5 في المائة، ويترافق ذلك مع عدم قناعة المؤسسات الاستثمارية بالآلية التي يتبناها أردوغان لخفض التضخم، فالرئيس يرغب في خفض أسعار الفائدة، في وقت أدى فيه تراجع الليرة إلى تنامي مخاطر ارتفاع خدمة ديون الشركات التركية، وخاصة أن أغلبها بالعملات الأجنبية وتحديدا الدولار، فقد ارتفع الدين الخارجي للقطاع الخاص في الأجل القصير (الديون التي يجب دفعها خلال 12 شهرا) إلى 18.6 مليار دولار في شهر آذار (مارس) الماضي، بينما بلغ الدين طويل الأجل 226.8 مليار دولار".
ويضيف: "من ثم فإن هناك حالة من الانزلاق المالي تتمثل في مكافآت نقدية مقدمة للمتقاعدين وخفض الضرائب على الوقود والممتلكات، بلغت نحو 5.6 مليار دولار، والتعهد بحزمة أخرى من الحوافز بنحو سبعة مليارات دولار، وجميعها تعد شكلا من أشكال الرشوى السياسية لاكتساب مزيد من الشعبية، والنتيجة أن وكالة ستاندر آند بورز رفعت توقعاتها بأن يصل حجم العجز الحكومي هذا العام إلى 2.4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي".
وتعزز وجه النظر تلك موقف صندوق النقد الدولي بأن توسع الاقتصاد التركي الذي بلغ 7 في المائة العام الماضي، لم يكن إيجابيا عند النظر إلى أسبابه، إذ انحصر السبب الرئيس في تحقيق هذا المعدل المرتفع في الحصول على مزيد من القروض الدولية وتزايد الدعم المالي الحكومي، بينما زادت الصادرات نتيجة انخفاض قيمة الليرة.
ويشير الصندوق إلى أن توقعات النمو هذا العام قد تبلغ 5 في المائة. وهي نسبة قد تحقق لأردوغان وحزبه شعبية، لكنها تعزز غياب التوازن في الاقتصاد التركي، بطريقة قد تفقده جاذبيته الاستثمارية في الأمد الطويل.
وتقرير لصندوق النقد حذر فيه أوضاع الاقتصاد التركي جاء فيه "من الممكن أن تصبح مناطق الخطر أكثر وضوحا إذا ما اتخذت الظروف الخارجية منعطفا سلبيا، وأن أبرز نقاط الضعف الراهنة تنحصر في احتياجات التمويل الخارجية الكبيرة، والاحتياطات المحدودة من العملات الأجنبية، وزيادة الاعتماد على تدفقات رأس المال القصير الأجل، وارتفاع التعرض لمخاطر العملات الأجنبية، كما تظهر بوادر على زيادة العرض المحتمل في قطاع التشييد والبناء".
والمثير للدهشة أن ملاحظات صندوق النقد، وجهت بهجوم شديد من كبار المستشارين الاقتصاديين لأردوغان، وفي مقدمتهم جميل أرتيم، الذي اعتبر وجهة نظر الصندوق بضرورة كبح الإنفاق وخفض التضخم ترتكز على "النظريات الاقتصادية الفاشلة التي تروج لها الديناصورات"، مؤكدا أن أنقرة "ستفعل العكس تماما".
من جهته، يشير هنري فوكس الخبير الاستثماري إلى أن الاقتصاد التركي بات مرهقا للغاية، وأن السياسة المالية المتبعة فضفاضة بشكل كبير، بحيث يكاد التضخم ينفلت من عقاله، خاصة في ظل العجز التجاري المتزايد بمعدلات غير مسبوقة، والعجز الملموس في الميزانية نتيجة حزم الدعم التي قدمتها الحكومة التركية لاجتذاب الناخبين.
ويضيف لـ"الاقتصادية"، "عجز الحساب الجاري تجاوز 5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وتركيا الآن من بين أكبر دول مجموعة العشرين عجزا تجاريا، ويرجع ذلك إلى افتقارها لموارد الطاقة وهي مستورد رئيس للنفط، وارتفاع أسعار النفط يؤدي لزيادة العجز، ويترافق ذلك مع انخفاض معدل الادخار في تركيا، ما يعني أن النمو يمول عبر القروض الخارجية، ويزداد الطين بلة، أن الجزء الأكبر من السيولة النقدية يأتي في شكل تدفقات مالية قصيرة الأجل في شكل أسهم وسندات، وليس في شكل مصانع أو شركات، كما أن الطابع السلطوي لأردغان وإعلانه بشكل صريح أنه سيتدخل في السياسة النقدية للدولة بعد الانتخابات، يعني أن البنك المركزي سيفقد استقلاليته، وهذا الأمر يثير مخاوف المستثمرين، ولهذا أتوقع أن تشهد تركيا ولفترة طويلة مقبلة إذا ما فاز أردوغان في تلك الانتخابات تراجعا استثماريا كبيرا".
مع هذا يعتقد البعض أن رفع أسعار الفائدة لن يحل مشاكل الاقتصاد التركي كلها، فاستعادة الاقتصاد لتوازنه المفقود، يتطلب أن تتباطأ الواردات وأن يتم تقليص عجز الحساب الجاري، وأن تقترض تركيا أقل، لتخفيف الضغط على الليرة والشركات التركية الصغيرة، إلا أن رفع معدل الفائدة سيجعل بعض المقترضين غير قادرين على خدمة ديونهم، ومن المرجح أن تزيد معدلات الديون المعدومة، وهو ما قد يدخل المنظومة المصرفية في تركيا في مشاكل ضخمة.
وبدوره، يقول لـ"الاقتصادية"، إل. آر بن الباحث في مجال التنمية الاقتصادية، "ستحتاج تركيا للخروج من أزمتها عملية إصلاح هيكلي ضخمة أرجأها أردوغان لسنوات لاكتساب مزيد من الشعبية، فالإصلاح الاقتصادي عملية مكلفة، تتطلب زيادة القدرة التنافسية، وهذا قد يضر بمصالح كبار قادة حزب العدالة والتنمية، الذين يتحكمون في مفاصل الاقتصاد التركي ويمولون الحزب ويدعمون أردوغان، وسيتطلب أيضا زيادة المدخرات، وهذا يعني خفض الاستهلاك المحلي، وهذا حتما سيقلص من شعبية الحكومة".
ويضيف: "كما يجب زيادة الاستثمار في التعليم والتكنولوجيا التي ستساعد في زيادة إنتاج السلع الأكثر قيمة، ما يزيد من عائدات التصدير، إذا ما تحقق ذلك ستتحرر الليرة التركية من اعتمادها على التدفقات المتقلبة لرؤوس الأموال، ويمكن للاقتصاد التركي أن يكون على الطريق الصحيح للتنمية".

الأكثر قراءة