قواعد الحوكمة هل ستحارب الفساد؟

خلال جلساته في الأسبوع الماضي، نجح مجلس الشورى بشكل لافت في إقرار توصية بشأن تقرير هيئة الرقابة والتحقيق، جاء مضمونها بأن على الهيئة وضع دليل استرشادي للحوكمة تتبعه الجهات والهيئات الحكومية المشمولة برقابة الهيئة. وقد جاءت التوصية بعد نقاش موسع حول ضرورة الحوكمة في الجهات الحكومية، وحول وجود أدلة إجراءات من عدة جهات وأدلة رقابية يتم العمل عليها حاليا، فما هو الداعي لوجود دليل استرشادي للحوكمة؟ ولكن لعل القضية الأبرز خلال النقاش كانت لماذا جاءت التوصية لهيئة الرقابة والتحقيق بالذات؟ هذا المقال لتوضيح ذلك كله.
بداية، فإن هيئة الرقابة والتحقيق تختص بالرقابة على حسن الأداء الإداري وتطبيق الأنظمة والتحقيق في المخالفات الإدارية والادعاء فيها أمام المحكمة المختصة. فمن هذا الباب، يمكن القول إن هيئة الرقابة والتحقيق هي أكثر الجهات علاقة بوضع قواعد للحوكمة، ونعم قد يكون هناك علاقة مهمة مع هيئة مكافحة الفساد على وجه الخصوص، وكذلك ديوان المراقبة العامة، ولكن -من وجهة نظري- أن تظهر هذه التوصية على تقرير هيئة الرقابة ليس في ذلك ما يمنع تعاونها مع باقي المؤسسات، فالمهم الآن أن تصدر هذه التوجيهات. وإذا كان السؤال ليس فيمن يقوم بإعداد وإصدار مثل هذه التوجيهات، بل لماذا نقوم بها أصلا في الجهاز الحكومي؟ وهل نحن بحاجة إليها؟ هنا أقول إن الأمر مرتبط أساسا برغبتنا في تحقيق تنمية مستدامة، وأيضا في مكافحة الفساد، خاصة أن مكافحة الفساد ليس بالضرورة أن تقف عند كشف المفسدين والتعامل معهم بما يلزم من مصلحة البلاد والعباد، بل من المهم اليوم، خاصة مع طموحاتنا الكبيرة وعلو كعب المملكة اقتصاديا في العالم، خاصة مجموعة الدول العشرين، هو إقفال كل منافذ الفساد ما أمكننا إلى ذلك سبيلا من وسائل تعارفت عليها الشعوب، أهمها قواعد الحوكمة.
فالفساد بشكل عام ليس مجرد اختلاس الأموال والنقدية أو حتى سوء استخدام السلطة، بل إنه يمتد إلى أبعد من ذلك بكثير، وهذا هو المطلب الأساس الذي طالبت به هيئة مكافحة الفساد منذ إنشائها، أن تعرف الفساد الذي تسعى إلى مكافحته. ذلك أن فسادا من نوع اختلاس الأصول العامة وسوء استخدامها له من الأدوات الرقابية والتقارير ما يناسبه، وكلما وسعت أو ضيقت من نظرتك إلى مفهوم الفساد زادت عندك الأدوات التي تحتاج إليها أو نقصت. فالفساد الذي أدعو دائما إلى محاربته هو، الفساد الذي يعرف بأنه التحيز عند اتخاذ القرار نحو مصلحة شخصية أو فئوية. فالمفترض، أن أي قرار حكومي يتخذ أساسا من المصلحة العامة، لكن من يقرر المصلحة العامة هذه؟ هنا، تظهر أكبر مشكلات الأجهزة الحكومية، وهنا يجد الفساد فرصة للنمو. فإذا كان تقرير المصلحة العامة مرهونا بشخص واحد، فإن احتمالات الانحياز إلى فئة ما من فئات المجتمع "أو لنقل أصحاب المصلحة" يعتبر احتمالا واردا جدا، مهما كان حرص هذا الشخص على الظهور بعكس ذلك، إذ إن بعض الانحياز لا يظهر فورا، وبعضه لا يمكن مقاومته دون أدوات حقيقية.
قواعد الحوكمة "بشكل عام" هي القواعد التي يتم من خلالها إدارة الجهة الحكومية وفق آليات تحكم العلاقات المختلفة بين قيادة الجهة الحكومية بحسب حالها: "الوزير أو المحافظ أو مجلس الإدارة والمديرون التنفيذيون أو الوكلاء ومساعدوهم" والموطنون أو المساهمون وأصحاب المصالح، وذلك بوضع إجراءات خاصة لتسهيل عملية اتخاذ القرارات وإضفاء طابع الشفافية والمصداقية والمساءلة عليها، بغرض حماية حقوق جميع الأطراف وتحقيق قيم الأخلاق والعدالة والتنافسية والشفافية. إذن، فقواعد الحوكمة هي التي تضبط إيقاع القرار، فلا ينحاز أبدا نحو أي فئة، فعملية صنع القرار وفقا لها ستتضمن كثيرا من التشاركية، والاستقلال، والمعلومات المتاحة تضمن مصداقيتها وعدم تورط الجهة في صناعة معلومات غير صحيحة، "ولعلنا نتذكر الجدل في كل مرة عن حجم البطالة بين الجمهور والجهات وبين الجهات نفسها، فالشفافية تجبر كل ذي مصلحة على الاهتمام"، والشفافية تضمن أيضا الحرص على وصول القرار إلى كل الأطراف، ما يمكنهم من اتخاذ مواقف تتناسب معه. وقبل أن نواصل الحديث، فيجب علينا تحرير مسألة مهمة جدا هنا عن أصحاب المصلحة.
هناك أربعة أنواع من أصحاب المصلحة التي ينبغي أخذها في الاعتبار دائما، وهي (1): الذين يتمتعون بنفوذ رسمي يخول لهم اتخاذ قرار؛ (2): الذين يتمتعون بنفوذ يتيح لهم منع اتخاذ قرار؛ (3): الذين يتأثرون بشكل هام بالقرار؛ (4): الذين يمتلكون معلومات أو خبرات ذات صلة. فالانحياز في القرار سيكون حتميا إذا تم تجاهل أي فئة من هذه الفئات في عملية صنع القرار، خاصة إذا أخذنا الأبعاد السياسية في الموضوع. بمعنى آخر، إذا كانت القوى غير متوازنة في هذه الجهة الحكومية أو تلك فيما يتعلق بعلاقتها بهذه الفئات.
يتضح -بقدر هذه المساحة المتاحة- أهمية أن تظهر لنا قواعد للحوكمة استرشادية على الأقل، وتقوم عليها مؤسسة مستقلة تماما مثل هيئة الرقابة والتحقيق، على أنه يجب أن يكون هناك شراكة استراتيجية مع جهات، مثل ديوان المراقبة العامة وهيئة مكافحة الفساد، من أجل تطوير شامل. ورغم أنني أضع هذا المقال التشجيعي لمثل هذا الاتجاه، إلا أنني في نهايته ما زلت أضع تحفظاتي التي أشرت إليها في مقالات سابقة عن الحوكمة في القطاع الحكومي "هنا في هذا المنبر الاقتصادي".

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي