«جرة قلم» من الجوال

من الغريب جدا أن تكون مسؤولا كبيرا، وتصدر قرارا نافذا، ثم ينتشر هذا القرار بين عشرات الموظفين، ويؤثر في المئات أو الآلاف غيرهم من العملاء، ولكن، في الوقت نفسه، يخرج القرار من فكرة عابرة أثناء الجلوس في السيارة، ولا يستند إلى تحليل ومسوغات مكتوبة، ويكون عبارة عن عدة كلمات موثقة في مكان عرضة للأذى والتشويش والضياع. هذا تماما ما يحصل عندما يتم استخدام التقنية بشكل سلبي، فتخرج القرارات والتوجيهات نتيجة لتفاعل أو انفعال على "واتساب"، أو برسالة صوتية قصيرة دون سياق قابل للربط.
أثرت التقنية في أسلوب وزخم التواصل بشكل خيالي في السنوات الماضية، ولكن هذا لا يعني أن الجميع أصبح أكثر كفاءة في التواصل. يشمل هذا الأمر المديرين والمسؤولين الذين لا يحسنون استخدام التقنية. بدلا من الاستفادة من السرعة يصنعون التخبط، وبدلا من المرونة يروجون للفوضى، وبدلا من التزامن والاندماج يدفعون من معهم إلى العزلة والابتعاد. وجود التقنية وجميع أدواتها المختلفة بالقرب منا، لا يعني بالضرورة قدرتنا على استخدامها بشكل جيد وإيجابي. تعاملنا مع أداة "حديثة"، لا يعني أننا نحسن التعامل مع ما "يستجد" من الأمور.
المشكلة ليست مجرد مشكلة قرارات سريعة تخرج نتيجة لاستخدام وسيلة غير ملائمة، بل إن هناك كما هائلا من الممارسات الإدارية اليومية التي يتم تنفيذها في بيئة وقنوات تواصلية غير ملائمة لها، تشوه معالجتها وتصنع نتائج معاكسة لأهدافها. يحتوى العمل الإداري على سلسلة طويلة من عمليات الفهم والاستيعاب والتنسيق والتحليل والنقاش والمتابعة والعرض والتبليغ والمراجعة والترتيب، التي يتم تنفيذها في العادة باستخدام أكثر من سياق وقناة تواصلية، حسب طبيعة المهام وحسب ظروف الأشخاص المشاركين فيها. ولكن أن يجتمع معظم ما سبق في "واتساب" عن طريق استخدام مجموعة بسيطة جدا تحاول استخدام التواصل الحي المحدود بالكتابة النصية والرسائل الصوتية "المؤجلة"، يجعلنا نعلب مراحل العمل الإداري في حيز غير طبيعي وغير معقول. هي عملية كبس للتواصل في صورة تقنية بشعة، تجعل النتائج خطيرة جدا.
هل استخدام منصات التواصل الاجتماعي في العمل الإداري اليومي حل خاطئ؟ بالطبع لا، قوة التقنية الثورية في تيسير الأعمال بشكل أفضل لا يمكن تجاهلها، ولكن هذا لا يعني أن نقوم بذلك بشكل تلقائي يتحول إلى سلوك سلبي يصنع نتائج غير مرغوب فيها. هناك اليوم آلاف التطبيقات المتخصصة في التواصل الموثق والآمن، وهناك ما يستخدم خصيصا لإدارة فرق العمل، وآخر لإدارة المشاريع والمهام، وبالطبع هناك ما يصلح لتحليل المعلومات وصناعة القرارات، وغيرها ما يجمع كثيرا من الأدوار الأخرى التي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نستغني عنها ونقوم في الوقت نفسه بالعمل بشكل صحيح. تشبه مشكلة استخدام "واتساب" في العمل الإداري استخدام البريد الإلكتروني بشكل خاطئ للتواصل وإدارة المهام. ولكن الفرق الكبير أن البريد الإلكتروني مصمم إلى حد ما للتواصل بشكل معين ضمن ممارسات إدارة الأعمال، ويعرف كثيرون جوانب قوته وضعفه، ويمكن إلى حد ما السيطرة على نتائج استخدامه. بينما "واتساب" ليس مصمما أساسا للقيام بهذه الأدوار المهمة، واستخدامه يجعل العمل الإداري يخرج عن سياقه.
لا تنفع الحنكة الإدارية عندما تمرر الحلول في قنوات خاطئة وتتشوه في الطريق، ولن تنقذ الحكمة البالغة أو الذكاء الخالص أحدا عندما تخرج الرسالة بأسلوب غير ملائم يغير من وقعها بشكل يخل بالمعنى المراد لها. يعرف الإداري الجيد الحلول الموجودة، ويجيد اختيار الأفضل منها لتنفيذ عمله بشكل سلس وفعال. على قمة هذه الحلول تأتي الأدوات التقنية التي تتجدد باستمرار. لذلك، تعد محاولة استخدام التقنية دون محاولة "تعلم" استخدامها، أحد مكامن الخطر الجديدة في ممارسة العمل الإداري. استخدام التقنية بشكل خاطئ أسوأ من استخدامها بشكل محدود، والقفز بين الأدوات غير الملائمة لن يملأ أي جزء من الفراغ. قيل سابقا: "انتهى الأمر بجرة قلم"، ولكن اليوم تهدم كيانات ببضعة كلمات مصورة في شاشة، أو رسالة صوتية يتناقلها أشخاص لم توجه لهم أساسا!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي