حقبة جديدة .. تعديل الجينات لعلاج الأمراض المستعصية

حقبة جديدة .. تعديل الجينات لعلاج الأمراض المستعصية

منذ أن بدأ العلماء فك شيفرة الجينوم البشري في عام 1990، أخذ الأطباء يحلمون بولوج حقبة جديدة من الطب يمكن معها علاج الأمراض – أو حتى الشفاء منها - من خلال إصلاح عيوب موجودة في الحمض النووي للإنسان. بدلا من استخدام الدواء لمحاربة الأمراض، هذا يجعلهم قادرين على اختراق علم الأحياء للتصدي للأمراض في مصدرها.
بدأ الحلم يتحقق في عام 2013، عندما أظهر باحثون كيف يمكن استخدام آلية تحرير أحد الجينات، الذي يعرف باسم "كريسبر-كاس9" Crispr-Cas9، لتحرير الخلايا البشرية الحية وتعديلها، ما يزيد من إمكانية تعديل الحمض النووي للإنسان، تماما مثلما يتم تغيير النص من خلال برنامج معالجة النصوص.
الآن تقول اثنتان من شركات التكنولوجيا الحيوية "إنهما تعتزمان البدء باختبار هذه التكنولوجيا على البشر في وقت قريب ربما يكون هذا العام".
تقدمت شركة كريسبر ثيرابوتِكس منذ فترة بطلب للحصول على إذن من الجهات المنظمة الأوروبية لاختبار منتجها الأكثر تقدما، "سي تي إكس 001" CTX001، على أشخاص يعانون أحد أمراض الدم الموروثة، بيتا ثلاسيميا، الذي يحول دون أن ينتج الجسم ما يكفي من خلايا الدم الحمراء السليمة. المرضى الذين يعانون أشد الحالات يمكن أن يتعرضوا للموت في حال عدم خضوعهم لعمليات نقل دم متكررة.
تقول الشركة في مقرها في سويسرا "إنها تعتزم أيضا الحصول على إذن من إدارة الدواء والغذاء الأمريكية هذا العام حتى تتمكن من تجربة عقار "سي تي إكس 001" على أشخاص يعانون مرض الخلايا المنجلية، أحد أمراض الدم الموروثة الأخرى".
تقول "إديتاس ميدسين"، وهي شركة منافسة لكريسبر مقرها الولايات المتحدة، "إنها تعتزم التقدم بطلب للحصول على الموافقة من إدارة الغذاء والدواء في منتصف العام حتى تتمكن من اختبار أحد منتجاتها من جين كريسبر المعدل على مرضى يعانون حالة نادرة من العمى الخَلقي، الذي يتسبب في فقدان حاد للرؤية عند الولادة". وفي حال وافقت إدارة الغذاء والدواء يجب أن تكون الشركة قادرة على الشروع في هذه التجارب في غضون 30 يوما من تقديم الطلب.
إذا نجحت التجارب، تقول كل من "كريسبر" و"إديتاس" وشركة ثالثة هي إنتيليا ثيرابوتِكس، "إنها تعتزم دراسة آلية تحرير الجينات لدى البشر من خلال مجموعة من الأمراض بما فيها السرطان والتليف الكيسي والهموفيليا "من أمراض الدم" ومرض ضمور العضلات".
في الصين، حيث تتخذ الجهات التنظيمية نهجا أكثر تساهلا مع التجارب البشرية، هناك كثير من الدراسات قيد التنفيذ، على الرغم من أنها لم تتوصل حتى الآن إلى أي بيانات قاطعة.
من الأفضل اعتبار عقار كريسبر-كاس 9 على أنه يجمع بين نوعين من التكنولوجيا على نحو يجعل عملية تعديل وتحرير الجينات أمرا ممكنا: "كاس9" يعمل كزوج من "المقصات الجزيئية" التي تستطيع قص خيوط من الحمض النووي، وإزالة المادة الجينية المعيبة وإيجاد مساحة من أجل إدخال الجينات العاملة بشكل سليم. "كريسبر" هو جين يشبه نظام تحديد المواقع الجيني الذي يقوم بتوجيه تلك المقصات لتصل إلى الموقع الدقيق.
تقول كاترين بوسلي، الرئيسة التنفيذية لشركة إديتاس، "إن حقل تحرير الجينات يتحرك بسرعة البرق، لكن الآلية ستقتصر في البداية على الأمراض التي لا تتوافر أمامها أي خيارات أخرى جيدة".
السبب في ذلك هو أنه، كما هي الحال مع أي تكنولوجيا جديدة، لا يتوافر لدى العلماء والجهات التنظيمية الدراية والمعرفة التامة بمخاطر السلامة التي ينطوي عليها الأمر. تقول بوسلي "نريد أن تكون العملية آمنة قدر الإمكان، لكن بالطبع هناك هذا النوع من الحداثة".
وتشير إلى أن 95 في المائة تقريبا بين الاضطرابات الجينية التي يزيد عددها على ستة آلاف، التي تعد الأكثر ترشحا للخضوع لعملية التعديل الجيني، لا يمكن علاجها. وهذا يقدم مجالا واسعا أمام الشركات لإجراء عمليات الاستكشاف.
وعلى الرغم من أن عقار كريسبر-كاس9 لم تتم تجربته بعد على البشر في أوروبا وفي الولايات المتحدة، إلا أن التكنولوجيا أفادت البحوث الطبية بدرجة كبيرة من خلال تسريعها العمل المخبري. في السابق كان العلماء يحتاجون إلى سنوات عدة لإنتاج فأر معدل وراثيا لتجاربهم، لكن مع وجود جين كريسبر-كاس9، يمكن إنتاج تلك الفئران "المحولة جينيا" في غضون أسابيع قليلة.
وتستخدم "سيليكتيس"، وهي شركة تكنولوجيا حيوية فرنسية، آلية أقدم للتعديل الجيني تعرف باسم "تالين"، لإيجاد علاج رائد لمرض سرطان الدم يعرف باسم "كار-تي" يجري اختباره حاليا على البشر.
وتوجد منتجات كار-تي الآن في الأسواق، وهي تعتمد على عملية مكلفة ومجهدة تتضمن استخلاص خلايا الدم البيضاء من الشخص، ونقلها بالطائرة إلى المختبر حيث تجري إعادة هندستها، قبل إعادتها مرة أخرى وإدخالها إلى دم المريض لمحاربة مرض السرطان.
وتأمل شركة سيليكتيس أن يعمل نهجها الخاص بالتعديل الجيني على تقليص مدة إعادة الهندسة المذكورة التي تستغرق وقتا طويلا.
بعض أنصار عقار كريسبر-كاس9 يرفضون استخدام آلية تالين باعتبارها طريقة قديمة وبطيئة ومكلفة، لكن أندريه تشوليكا، الرئيس التنفيذي لشركة سيليكتس، لا يوافقهم الرأي.
يقول "نحن لا نتحدث عن أجهزة الآيفون هنا، ربما يكون كريسبر تكنولوجيا جديدة، من السهل تصميمه وسعره رخيص، لكن من الذي يهتم؟ ليس هذا ما يحتاج إليه المريض. بل يحتاج إلى منتج أو عقار فعال جدا ودقيق جدا".
وسط هذه الإثارة، تعرض هذا الحقل الجديد من تعديل الجنيات إلى عديد من النكسات. شركة إيديتاس كانت ترجو أن تبدأ في تجاربها البشرية في وقت سابق، لكنها اضطرت إلى التراجع بعد أن واجهت حالات تأخير في عمليات التصنيع. وخسرت شركة كريسبر عددا من كبار التنفيذيين في الأشهر الأخيرة، في الوقت الذي اضطرت فيه "سيليكتس" إلى تعليق أول تجربة لها لفترة وجيزة العام الماضي بعد موت أحد المرضى.
في الوقت نفسه، أدى نشوب نزاع مرير حول براءات الاختراع وحول أي المؤسسات الأكاديمية اكتشفت عقار كريسبر-كاس9، وبالتالي أي شركات التكنولوجيا الحيوية لها الحق في تلك البراءات، إلى التأثير في عملية التعديل الجيني.
لا يزال هذا الحقل في مراحله الأولى والتقدم في أي حقل جديد من حقول العلم ليس سهلا أبدا. إن تمكن حقل التعديل الجيني من تحقيق أهدافه الواعدة، فسيتمكن يوما ما من إنقاذ أو تغيير حياة عشرات الملايين من المرضى بشكل عجيب ممن يعانون أمراضا غير قابلة للعلاج.

محطات التعديل الجيني

1993: فرانسيكو موجيكا من جامعة أليكانتي، إسبانيا، يصبح أول باحث يكتشف الآثار المترتبة على جين كريسبر.
2005: أليكسندر بولوتين، من المعهد الفرنسي الوطني للبحوث الزراعية، يرصد جينات كاس 9 في البكتيريا العقدية، ستربتوكوكس ثيرموفيلاس.
2007: يدرس العلماء في شركة دانون كيف يمكن لآليات "كريسبر" مساعدة بكتيريا ستربتوكوكس ثيرموفيلاس، المستخدمة على نطاق واسع في صناعة الألبان التجارية، على درء الهجمات الفيروسية.
2012: يبين عالما الكيمياء الحيوية، جينفر دودنا وإيمانويل تشاربنتيير، أن "كريسبر" يمكن استخدامه في تحرير وتعديل الحمض النووي في أنابيب الاختبار.
2013: يبلغ فينج تشانج من المعهد الواسع عن استخدام "كريسبر" لتعديل الحمض النووي في خلايا بشرية، ما يفتح المجال أمام استخدام هذه الأداة في الطب.
2015: استخدام "كريسبر" في تعديل جينات كل شيء، بدءا من الحشرات حتى الفئران.
2015: استخدم علماء بريطانيون "تالين" لتعديل الجينات لمعالجة طفل يعاني مرض اللوكيميا.

الأكثر قراءة