أوروبا تنافس أمريكا لتدشين حزام أمان رقمي يكبح جماح الإنترنت
هناك لازمة شائعة بشكل متزايد في وقتنا الحالي، هي القول "إن ثورة الإنترنت تعرضت للخيانة"، ومن ثم يجري تبرير التحريض على تجديد النضال لاستعادة اليوتوبيا المفقودة.
هناك ميلاد لتقنيات جديدة قوية تعهدت بتحرير المعرفة وإثراء الديمقراطية وإضفاء اللامركزية على السلطة اختطفها متصيدون خبيثون وأنظمة استبدادية ورأسماليون جشعون. في عالم يزداد شوقا إلى المستقبل، كيف يمكن استعادة وعود الإنترنت الأصلية؟
أندرو كين، صاحب مشاريع بريطاني ومؤلف عمل لفترة طويلة في الساحل الغربي للولايات المتحدة، كان ضمن أوائل المعلقين على التكنولوجيا الذين أعلنوا أن الإنترنت مصاب بالاختلال.
كتب في مؤلفه الجديد "كيف نصلح المستقبل"، "في الواقع، اتخذت التكنولوجيا الرقمية مسارا غادرا"، لكنه يحثنا جميعا على حمل السلاح لخوض معركة جديدة، تتمثل في مقاومة "الحتمية التكنولوجية الزاحفة (والخبيثة)" واستعادة السيطرة على مصيرنا.
إحدى حججه الأكثر إثارة للاهتمام تَعقِد مقارنة بين قوة شركات التكنولوجيا الأمريكية العملاقة اليوم وصناعة السيارات في الخمسينيات.
في ذلك الوقت، كانت شركات التصنيع الثلاث الأمريكية الكبرى: فورد وجنرال موتورز وكرايزلر، منشغلة بإنتاج سيارات براقة وشعبية، وسيطرت على ما نسبته 96 في المائة من السوق الأمريكية فيما بينها.
ومن ثم، في عام 1965، طرح محام شاب يدعى رالف نادر كتاب "سيارات غير مأمونة مهما كانت سرعتها"، ليهاجم منتجات صناعة السيارات القاتلة، متهماً الشركات بإيلاء الأولوية لديها للطراز وليس السلامة، ما أدى إلى حدوث مجازر على طرقات البلاد.
هناك حملة نادرة أحدثت هزة لدى رجال السياسة الغافلين لدرجة دفعتهم إلى اتخاذ جملة إجراءات. وسرعان ما أصدروا قرارا بأنه ينبغي تزويد جميع السيارات بميزات السلامة القياسية، مثل حزام الأمان، وفرضت على الشركات استعادة نحو 86 مليون سيارة محفوفة بالخطر.
نتيجة لذلك، انخفض عدد الوفيات لكل 100 مليون ميل يجري قطعها عبر طرق الولايات المتحدة من متوسط خمسة أشخاص في عام 1965 إلى واحد في عام 2014، وهو انخفاض بنسبة 80 في المائة.
كان لهذا التحول أيضا تأثير آخر حاسم: حيث عمل على تغيير الديناميات التنافسية لهذه الصناعة. بصفة خاصة، استطاعت شركات صناعة السيارات الألمانية - التي سرعان ما عملت على إعادة تصميم منتجاتها - واضعة نصب أعينها أمور السلامة واستمالة العملاء واقتطاع حصة كبيرة من السوق.
يستشهد كين بهذه الحادثة كمقياس لوقتنا الحالي. في الوقت الحاضر، الجمهور والساسة يرتعدون خوفا من شركات التكنولوجيا الأمريكية المهيمنة مثل جوجل وأبل وفيسبوك وأمازون، التي يطلق عليها أحيانا لقب "القوى العظمى في القطاع الخاص".
هل بإمكان مثل هذا التحول في الرأي العام أن يؤدي إلى حدوث تحول جذري في الاقتصاد الرقمي وتغيير المشهد التنافسي؟ هل بإمكان وادي السيليكون، المنغمس جدا في إحساسه الخاص بمناعته التكنولوجية والحتمية التاريخية، سلوك نفس المسار الذي سلكته ديترويت، عاصمة صناعة السيارات الأمريكية؟
كين من أكثر المعلقين اللاذعين ميلا إلى العراك في وادي السيليكون، يرجو ذلك بكل تأكيد. ويضيف أن "النظام الإيكولوجي للإنترنت المستند إلى الإعلانات الذي يتسم بأسلوب المراقبة" ليس مستداما.
هذا الوضع هو ما يجعل شركات الإنترنت ذات البيانات الكبرى غير مستعدة بشكل غريب للمستقبل، وغير جاهزة لمواجهة حالات تعطيل أعمالها.
هل يعثر على الجيل المقبل من عوامل التعطيل في موقع غير محتمل: أوروبا؟ التي تتعرض عادة لسخرية الجبابرة في الساحل الغربي، لافتقارها إلى الدينامية في الابتكار.
أولا: يقول إن الساسة الأوروبيين لا يزالون يؤمنون بواجبهم الأخلاقي - والسلطة التنظيمية – من أجل تشكيل الأسواق.
ويصف مارجريث فيستاجر، مفوضة المنافسة في الاتحاد الأوروبي التي تواجه بكل حماس شركات مثل أبل وجوجل، بأنها انبعاث في القرن الحادي والعشرين للرئيس الأمريكي تيدي روزفلت، الذي حاول جاهدا الحؤول دون دخول الشركات في اتفاقيات احتكار غير قانونية.
مكتب فيستاجر، هذه السياسية الدنماركية المريح في مبنى بيرلايمونت في بروكسل، اشتهر بتوبيخ تيم كوك رئيس شركة أبل أثناء خلاف حاد بشأن الضرائب، ولربما يكون إلى حد كبير "المكان الأكثر أهمية على كوكب الأرض لتحديد مستقبل صناعة التكنولوجيا العالمية".
ثانيا: تصميم أوروبا على الدفاع عن خصوصية مواطنيها، كما يتجلى في قانون حماية البيانات العامة الذي سيدخل حيز التنفيذ في أيار (مايو) المقبل، سيعمل على توليد مشهد تنافسي جديد يشجع على ظهور جيل جديد من الشركات، يشعر بوخز الضمير في مجال الإنترنت.
ويقول كين، إن واحدة من هذه الشركات قد تكون شركة كليكز، وهي محرك بحث مقره ميونخ، يدعو إلى "الخصوصية عن قصد". كما يعزو الفضل إلى مارك آل-هاميس، الرئيس التنفيذي المشارك لشركة كليكز، في تقديم الفكرة الأصلية بأن شركات الإنترنت العملاقة اليوم، غير آمنة مهما كانت سرعتها وبحاجة إلى حزام أمان رقمي.
يكتب كين، ملخصا آراء آل-هاميس "ستكون الأجيال المستقبلية مرتعبة بالقدر نفسه ومنذهلة من الطريقة المتعجرفة وغير المبالية، التي يتم من خلالها الكشف عن أكثر معلوماتنا خصوصية، أمام شركات مبهمة متعددة الجنسيات وغير خاضعة للمساءلة، تقع مقارها في قارات أخرى".
يستمد كين الإلهام من أماكن أخرى في أوروبا، أبرزها إستونيا، التي عملت على تطوير واحد من أكثر برامج بطاقات الهوية الوطنية تطورا في العالم.
وقد قابل الرئيس الأسبق للبلاد توماس هندريك إلفيس، وهو عالم حاسوب ذكي ورائع "ويفضل ارتداء البابيون" يقيم الآن في جامعة ستانفورد، وينسب إليه الفضل في إلهام النموذج الرقمي في إستونيا.
إلا أنه يجد أنه أقل تركيزا بكثير من حيث اهتمامه بالخصوصية، ومهتما بشكل أكبر بكثير بنزاهة البيانات.
يقول إلفيس "إن المهمة الرئيسية للحكومة الحديثة في مجتمع رقمي هي ضمان الهوية. إن كانت المعلومات هي بالتأكيد العملة الجديدة للعصر المتصل شبكيا، حينها يتطلب أيضا وجود ضمانة سيادية".
يقول إلفيس للمؤلف "أن يكون هنالك شخص يعرف فصيلة دمي ليس بالأمر المهم، لكن إن كان بالإمكان تغيير البيانات المتعلقة بفصيلة دمي- فهذا يمكن أن يتسبب في مقتلي".
كما يشير العنوان يدعي كتاب "كيف يمكن إصلاح المستقبل" أنه يضج بـ "الحلول". والأدوات الخمس التي يستخدمها كين لتحسين المستقبل هي: التنظيم، والابتكار التنافسي، والمسؤولية المجتمعية، وخيارات العاملين والمستهلكين، والتعليم.
من خلال اعتماد سياسات أفضل، يأمل أن نتمكن جميعا من العودة إلى الرؤية الأصلية لشبكة الإنترنت، كمستودع لامركزي للمعرفة، يعمل على تمكين الناس.
يشتمل كتاب كين على توصيفات فضفاضة كثيرة، وحشد ضخم من التفكير المبني على التمني "التفكير الرغبوي". تقدم شركات التكنولوجيا الاستهلاكية، التي تتنوع نماذج أعمالها بشكل كبير، منتجات وخدمات شعبية لم تعمل على استثارة يقظة هائلة من الشكاوى.
على سبيل المثال، حصة شركة جوجل السوقية في مجال البحث أعلى في أوروبا مما هي عليه في الولايات المتحدة، ما يشير إلى أن المستخدمين لا يشعرون بالخطر - حتى الآن – على غرار كين من "رأسمالية المراقبة".
علاوة على ذلك، كما يعترف، ستجد بعض عوامل التعطيل المستقبلية أنه من الصعب عليها التوسع في الحجم، على الرغم من أن شركة كليكز ليس لديها نموذج للإيرادات.
لعل الفجوة الأكبر في كتاب كين هي تغطيته العابرة للصين، فالدولة القابعة خلف سور الصين الرقمي العظيم، تعمل على إيجاد اقتصاد رقمي نابض بالحياة بشكل مذهل، إلا أنه يثير القشعريرة بتجاهل الاستقلال الفردي الذي يعتز به كين.
في عبارة أنيقة، يغلف كين القيم التي يسعى إلى تعزيزها بقانون مور، استنادا إلى أعمال السير ثوماس مور، مؤلف "المدينة الفاضلة" في القرن السادس عشر.
يقترح كين على شركات الإنترنت اليوم، وجميعها على علم تام بقانون موور الآخر "المستمد من ملاحظات جوردون موور القائل إن عدد الترانزستورات في شريحة متكاملة يتضاعف كل عامين"، بحاجة ماسة إلى إعادة إعلام نفسها بالثوابت الإنسانية لدى مور.