المشراق

الطعام عند العرب.. الجوع«أبي مالك» والخبز «جابرا» و«عاصما» و«عامرا»

الطعام عند العرب.. الجوع«أبي مالك» والخبز «جابرا» و«عاصما» و«عامرا»


الدكتور جواد علي ( 1325 - 1407هـ/ 1907 - 1987) عالم ومؤرخ عراقي غزير الإنتاج، واسع الاطلاع، له مؤلفات عديدة وقيمة منها كتاب في عشرة مجلدات كبار بعنوان "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام"، وهي موسوعة تعرض تاريخ العرب من نواح عديدة، وتناول في كتابه هذا أطعمة العرب والأعراب ومأكولاتهم قبل الإسلام، في مبحث لعله هو أول من توسع فيه من المؤلفين، ولأهمية هذا الموضوع نقدمه للقارئ الكريم مع بعض الاختصار الذي لا يخل بالمراد. يقول جواد علي:
يختلف أكل العرب عن أكل الأعراب، كما يختلف أكل أهل مكان عن أكل أهل مكان آخر من جزيرة العرب. وأكل الحضر متنوع نوعاً ما بالنسبة إلى مأكول أهل الوبر لفقرهم ولشح باديتهم، ولذلك صار طعام الأعراب على العموم بسيطاً. وقد أثر اختلاف نوع الطعام في هيئة الإنسان ووزن جسمه، فصار جسم الأعرابي نحيفاً في الغالب، لبساطة أكله، وقلة المواد النشوية والدهنية فيه.
البطنة تذهب الفطنة
ومن عادات العرب أنهم يقلون من الأكل، ويقولون: البطنة تذهب الفطنة، و"البطنهَ تأفن الفطنة". وكانوا يعيبون الرجل الأكول الجشع، ويرون أن "الأزم"، أي قلة الأكل أفضل دواء لصحة الأبدان. قيل للحارث بن كلدة، طبيب العرب في الجاهلية: ما أفضل الدواء? قال: الأزم. ولهم في ذلك أمثلة كثيرة في الأزم، وضرر البطنة رووا بعضاً منها على لسان لقمان، ورووا بعضاً آخر على ألسنة الحكماء العرب. وهم يعالجون البطنة بالحمية لأن المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء. وهم يرون أن الشبع والامتلاء يضعف الفطنة أي الشبعان لا يكون فطناً لبيباً. فللأكل علاقة كبيرة بالفطنة والعقل والذكاء.
وللعرب مصطلحات عديدة في درجات الأكل. أي من حيث كيفية تناول الطعام، ومن حيث الإقبال عليه إلى حد التخمة. ولما كان الإكثار من الأكل معيباً عندهم وضعوا ألفاظاً في هؤلاء الذين كانوا يسرفون في الأكل، فإذا دعوا إلى وليمة أسرفوا في الأكل، وأقدموا عليه، وكأنهم جاءوا من سني قحط. وعابوهم، ومدحوا من اعتدل في أكله وتوسط فيه، وأظهر نظافة وأدباً في تعاطيه. ومن عادات العرب، أنهم كانوا يبكرون في الغداء، ويرون أن ذلك أقرب إلى راحة البدن وصحته، ويؤخرون العشاء.
أكل الأعراب

ومآكل الأعراب قليلة شحيحة مثل شح البادية، خاصة إذا انحبس المطر وهلك الزرع. فإن رزقه يقل وقد يذهب ما معه من زاد فيهلك خلق من الأعراب من شدة الجوع. قيل لأعرابي ما طعامكم؟ قال: الهبيد، والضباب واليرابيع، والقنافذ والحيات، وربما والله أكَلنا القد، واشترينا الجلد، فلا نعلم والله أحداً أخصب منا عيشاً. والهبيد: حب الحنظل، تنقعه الأعراب في الماء أياماً، ثم يطبخ ويؤكل. وأما القد، فجلد السخلة، وفي حديث عمر، رضي الله عنه، كانوا يأكلون القد. يريد جلد السخلة. وكانوا يفصدون عرق الناقة ليخرج الدم منه فيشرب، يفعلونه أيام الجوع. كما كانوا يأخذون ذلك الدم ويسخنونه إلى أن يجمد ويقوى فيطعم به الضيف في شدة الزمان، إذا نزل بهم ضيف فلا يكون عندهم ما يقويه، ويشح أن ينحر المضيف راحلته في فصدها. والفصيد دم كان يوضع في الجاهلية في معي من فصد عرق البعير ويشوى وكان أهل الجاهلية يأكلونه وتطعمه الضيف في الأزمة. وأما الفصيدة فتمر يعجن ويشاب بدم، وهو دواء يداوى به الصبيان. ويقال للفصيد البجة كذلك. والبجة دم الفصيد، يأكلونها في الأزمة. والبج الطعن غير النافذ، فقد كانوا يفصدون عرق البعير ويأخذون الدم يتبلغون به في السنة المجدبة. جاء في الحديث: "إن اللّه قد أراحكم من الشجة والبجة"، وورد "أراحكم الله من الجبة والسجة"، أي قد أنعم عليكم بالتخلص من مذلة الجاهلية وضيقتها ووسع لكم الرزق وأفاء عليكم الأموال.
وكان أحدهم إذا نال شربة من اللبن الممذوق بالماء، وخمس تميرات صغار، ظن نفسه ملكاً، ودب إليه نشاطه. قال الشاعر:
إذا ما أصبنا كل يوم مُذيقة    وخمس تميرات صغار كنائز
فنحن ملوك الأرض خصباً ونعمة              ونحن أسود الغاب ضد الهزاهز
وكم متمنٍّ عيشنا لا يناله    ولو ناله أضحى به حق فائز
وأكل الجراد معروف مشهور عند الأعراب. يأكلونه نيئاً، وقد يطبخونه أو يحمصونه ويلقون عليه شيئاً من الملح. وقد يأكلونه بالتمر. وبغيره، وهو عندهم طعام لذيذ. ويذكر بعضهم أن الإنسان قد يصاب بالشري من أكله، وقد يشكو من بطنة قد تصيبه.
وغالب أكل الأعراب لحوم الصيد والسويق والألبان. وكانوا لا يعافون شيئاً من المآكل لقلتها عندهم. حتى أنهم كانوا يأكلون كل شيء تقع أيديهم عليه. ولا نجد من كتب أهل الأخبار ما يفيد تحريم العرب لأكل بعض الحيوان، بل نجد أن أغلبهم قد استباحوا أكلها جميعاً، مهما كان ذلك الحيوان صغيراَ أو كبيراً حسن المنظر أو قبيحه، من ذات الأظلاف أو من غيرها، حياً كان أم ميتاً. وذلك لفقرهم ولشدة الجوع عندهم. فلما جاء الإسلام حرم أكل الميتة والدم ولحم الخنزير والمختنقة وحدد الذبح وما يمكن أكله من الحيوان، بسبب ما كان يصيب الناس من أكل لحومها من أضرار. وقد أكلوا لحوم الحمر الوحشية والحمر الأهلية، فنهى الإسلام عن أكلها لما في ذلك من ضرر. وتمنىّ أحد الرجّاز لو اصطاد ضبّاً أو سحبلا سميناً، ليفوز بلحمه من شدة الفاقة والحاجة إلى اللحم.
نعم لقد ورد أن بعض القبائل عافت أكل لحوم بعض الحيوانات، أو عابت أكل بعض أجزائها، إلا أن هذا لا يعتبر عاماً، كما أنه من قبيل العرف والعادة أو مما له علاقة بالعقائد عندهم. فقد ذكر أن قبيلة جعفى كانت تحرم أكل القلب، إلا أن هذا التحريم هو تحريم خاص بهذه القبيلة. أما القبائل الأخرى فقد كانت تأكله ولا تبالي، لأنه غير حرام عندها.
وفي أيام الشدة وفي الأيام الأخرى أيضاً يرسل الأعراب أولادهم لجمع الحنظل، فإذا جمع نُقفِ، لإخراج هبيده، أي حَبّه، لطبخه، أو تحميصه لأكله. وقد تفاخر حسان بن ثابت بالغساسنة، لأنهم كانوا في بحبوحة من العيش، وليسوا بصعاليك يرسلون ولائدهم لنقف الحنظل. والى ذلك أشار امرؤ القيس بقوله:
كأني غداة البين حين تحملوا         لدى سمرات الحي ناقف حنظل
وقد كانوا يقاسون شدة الجوع والفقر في بعض السنين حتى يموت من يموت منهم من الجوع. قيل:  كانوا إذا اشتد بهم الجوع وخافوا أن يموتوا أغلقوا عليهم باباً وجعلوا حظيرة من شجرة يدخلون فيها ليموتوا جوعاً. ولقي رجل جارية تبكي فقال لها: ما لك? فقالت نريد أن نعتفد، والاعتفاد أن يغلق الرجل بابه على نفسه، فلا يسأل أحداً حتى يموت جوعاً. فالاعتفاد انتحار للتخلص من ألم الجوع.
قال بعض المدنيين لبعض الأعراب: أتأكلون الحيّات والعقارب والجعلان والخنافس؟ فقال: نأكل كل شيء إلا أم حُبين. فقال المدني: لتهَنِ أم الحُبَين العافية. فالفقر كافر، والجوع يدفع الإنسان إلى أكل كل شيء. والعرب تكني عن الجوع بـ "أبي مالك". وتسمي الخبز جابراً وعاصماً وعامراً. وقد كنّت عنه وعن الإفلاس بـ "أبي عمرة".
أكل الحضر لا يناسب الأعراب:
وهو على فقر أكله وبساطته وجوعه يهزأ بأكل الحضر ويسخر منه، ويرى فيه طعاماً صعباً لا يهضم، وأكلاً لا يناسب مزاج العرب، إذا أكله آكل اْصيب بمرض. وهو محقّ في ذلك، فرجل ذو معدة فارغة، لا يذوق إلا القليل من الأكل والماء، لا تتمكن معدته من هضم طعام مهما كان بسيطاً، فإنه ثقيل بالنسبة إلى معدة الأعرابي، فإذا أقبل على أكل طعام أهل الحضر، وهو طعام غير مألوف عنده أصيب ببطنة تجعله يكره أكل الحضر، وطعام أهل القرى والمدن، ويعجب كيف يأكله أولئك ثم لا يصابون بمكروه. قال أعرابي قدم الحضر فشبع فاتخم:
أقول للقوم لما ساءني شبعي             ألا سبيل إلى أرض بها الجوع
ألا حيل إلى أرض يكون بها            جوع يصدع منه الرأس ديقوع

وقد كان الجاهليون يأكلون كل ما وقع تحت أيديهم من حيوان مقتول أو ميت، فنزلت الحرمة عن ذلك في الآية: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّم ُوَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَ ّلِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَالِكُمْ فِسْقٌ). وذكر أن أهل الجاهلية كانوا يخنقون الشاة وغرها، فإذا ماتت أكلوها. وأنهم كانوا يضربون الأنعام بالخشب لآلهتهم حنى يشلوها فيأكلوها. وذكر أن الموقوذة: هي التي ترمى أو تضرب بحجر أو عصا حتى تموت من غير تذكية. والوقذة شدة الضرب.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من المشراق