FINANCIAL TIMES

هل ترفض واشنطن نظاما عالميا فرضته من قبل؟

هل ترفض واشنطن نظاما عالميا فرضته
من قبل؟

هل ترفض واشنطن نظاما عالميا فرضته
من قبل؟

عبارة "النظام العالمي القائم على القواعد" تستثير التثاؤب، لكنها تعني شيئا مهما: جميع البلدان في العالم، باستثناء قلة من الدول المارقة، تتعامل مع بعضها بعضا وفقا لمجموعة متفق عليها من القواعد القانونية والاقتصادية والعسكرية.
في حال تجاهل تلك القواعد أو الانقلاب عليها، سوف تندلع الصراعات. بعض البلدان الغربية تعتقد منذ فترة طويلة أن العبارة المذكورة لا تزيد على كونها ستارا للهيمنة الأمريكية على العالم، وبقية دول العالم غير الغربية ترى أن العبارة هي تعبير عن سيطرة الغرب، كله، على الكون.
وحيث إن الولايات المتحدة هي التي كتبت القواعد من الناحية العملية، فقد كان من المفترض أن النظام بأكمله متحيز لصالح الولايات المتحدة.
كيف يرى الرئيس الأمريكي دونالد ترمب الأمر؟ هو لا يراه على هذا أو حتى ذاك النحو. يعتقد الرئيس الأمريكي أن الأجانب الأذكياء يتلاعبون بقواعد النظام الدولي، على نحو يجعل الولايات المتحدة الآن في وضع تجاري سلبي بشكل هائل، ويجعلها مضطرة لقبول أحكام عدائية من قبل المحاكم الدولية. وحين يتعلق الأمر بالأمن، يشتكي ترمب من أن أمريكا تنفق المليارات من أجل إعطاء حماية بأسعار رخيصة لحلفاء ناكرين للجميل. لذلك هو يطلب رسوما مقابل الحماية.
هناك شعار تقرأه في محال بيع الخزف: "إذا كسرتَ القطعة، فإنها سوف تصبح ملكك" (بمعنى أنك سوف تتحمل ثمنها)، لكن حين يتعلق الأمر بالنظام العالمي القائم على القواعد، فإن وجهة نظر إدارة ترمب تبدو أنها ما يلي: "لم نعد نمتلكها، وبالتالي فإننا سوف نكسرها". أي أن الولايات المتحدة تنقلب الآن على النظام الذي أنشأته – وعواقب ذلك لا يمكن التنبؤ بها، إلى جانب أنها تنطوي على كونها خطيرة.
سيكون العام المقبل بمنزلة اختبار كبير لمدى استعداد إدارة ترمب للسير مع احتمالية شن الولايات المتحدة هجوما متعدد الجوانب على النظام التجاري الدولي: أي المطالبة بتغييرات جذرية في اتفاقية التجارة الحرة في أمريكا الشمالية، وعرقلة منظمة التجارة العالمية، وفرض الرسوم الجمركية على البضائع الصينية.
قد يظهر التوتر بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية كذلك، أو داخل حلف الناتو، بكل سهولة هذا العام - ما يثير تساؤلات حول التزام الولايات المتحدة الآن، على عكس المعتاد، بالقواعد التي تحكم الأمن العالمي.
السؤال الأساسي هو: ما الشكل الذي سيبدو عليه العالم، بعد سنوات قليلة من اتجاه إدارة أمريكية ملتزمة بتغيير جذري للنظام الدولي الراهن؟

الاحتمالات الـ4
بصفة عامة، هنالك أربعة احتمالات: الاحتمال الأول هو أن تنجح الولايات المتحدة في فرض التغييرات التي تريدها ويبقى النظام، ولو بشكل معدل، مع بقاء الولايات المتحدة في مقعد الزعامة العالمية، بوضوح.
أما الخيار الثاني فيتضمن ظهور نظام جديد، تعمل فيه بقية بلدان العالم في ظل نظام متعدد الأطراف، ويجري فيه تجاهل أحادية الجانب الأمريكي، قدر الإمكان.
الاحتمال الثالث هو أن انسحاب من الولايات المتحدة – إلى حد كبير من النظام أو التنظيم الدولي - بما يؤدي إلى حدوث انهيار في النظام القائم على القواعد – وثمن ذلك مواجهة العالم لفوضى عامة.
الخيار الرابع هو أن تشعر الولايات المتحدة بالرضا عن تغييرات لا تزيد على كونها تعديلات في المظهر وبسيطة من حيث الجوهر، ويبقى النظام إلى حد كبير كما هو الآن.
من السابق لأوانه أن نحدد أيا من تلك السيناريوهات ستكون له السيادة.
سوف تجادل إدارة ترمب بأن الخيار الأول: النظام المتغير - الذي لا يزال يخضع لقيادة الولايات المتحدة - هو قيد التغيير الآن من الناحية العملية.
لقد دخلت واشنطن مع كل من كندا والمكسيك في مفاوضات حول إجراء تعديل على معاهدة نافتا. يعمل الأعضاء الأوروبيون في حلف النيتو على زيادة الإنفاق العسكري. وربما تقدم الصين تنازلات تجارية، إن تمت ممارسة ضغط كاف.
في المقابل، هنالك عناصر تنبثق عن الخيار الثاني - عالم من دون الولايات المتحدة؟ عندما انسحبت الولايات المتحدة من اتفاقية الشراكة التجارية عبر الباسفيكي، قرر الأعضاء الـ 11 الآخرون المضي قدما من دونها.
في الأسبوع الماضي، أشار ترمب إلى أن الولايات المتحدة قد تنضم مرة أخرى لاتفاقية التجارة الحرة بعد تعديلها - لكن ربما يكون قد فات الأوان على ذلك.
في الوقت نفسه، يتعزز موقف الاتحاد الأوروبي بسبب خطاب ترمب المعادي للتجارة، وهو الآن على وشك التوصل إلى إبرام صفقات تجارية مع اليابان، ومع مجموعة السوق المشتركة لدول أمريكا الجنوبية.
والصين تمضي قدما في مبادرة الحزام والطريق، بتعاونها مع بلدان أخرى لإيجاد بنية تحتية عبر كتلة اليابسة الأوراسيّة (الأوروبية-الآسيوية)، ومنطقة المحيط الباسفيكي.
بيد أن الولايات المتحدة مهمة جدا بالنسبة لنظام عالمي جديد (هناك من يرى استحالة ذلك ضمن أي نظام)، يتم بناؤه من الناحية العملية من غير مشاركة أمريكية. ولهذا السبب هنالك أيضا حجج قوية تدعم الخيار الثالث – أي حلول الفوضى.
إن واصلت إدارة ترمب عرقلة تعيين قضاة في محكمة الاستئناف التابعة لمنظمة التجارة العالمية، حينها سيدفع نظام التجارة العالمي بأسره الثمن.
كما أن هنالك أيضا مهاما محددة تؤديها الولايات المتحدة- على وجه الخصوص، تقديم الدعم العسكري لحفظ التوازن في العالم، ولربما هناك ما هو أكثر أهمية بكثير، أي توفير العملة الاحتياطية للعالم – على الرغم من التضاؤل النسبي للدولار بظهور اليورو وقابلية متزايدة لعديد من العملات، للعب دور مساند، هذا كي لا نضيف العملات المشفرة.
من المستحيل تكرارها في ظل الظروف الحالية.
إن سحبت الولايات المتحدة الضمانات الأمنية في المحيط الباسفيكي، على سبيل المثال، لن تتمكن الجهود المشتركة المبذولة من قبل كل من اليابان والهند وأستراليا من سد الفجوة. كما أن اليورو والرنمينبي غير مستعدين لأن يكونا بمنزلة العملة الاحتياطية في العالم، حتى إن أصبحت إدارة الولايات المتحدة للدولار على غير ما هي عليه، منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، أو على الأقل، منذ فك ارتباط الدولار بقاعدة الذهب، في النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي. حقيقة أنه لم يتم حتى الآن اتخاذ أي إجراء جاد تقدم أيضا بعض الأدلة الداعمة للخيار الرابع - الذي يتضمن إقناع الولايات المتحدة لنفسها بالتغييرات البسيطة التي تسمح لترمب بادعاء تحقيق بعض "المكاسب".
هل تثور الشركات الأمريكية إذا ما حاولت إدارة ترمب تفكيك اتفاقية نافتا؟ وأيا كان ما سيقوله الرئيس ترمب، تكتسب الولايات المتحدة ميزات ومنافع أمنية وسياسية من خلال لعبها لدور "شرطي العالم" وليس في المنظور التخلي عن ذلك الدور بسهولة.
هذه العوامل تجعلني أعتقد أن التغيير الخارجي (الذي لا يمس الجوهر) هو أرجح نتيجة لهجوم إدارة ترمب على النظام العالمي القائم على القواعد.
في المقابل، فإن اللعبة الأمريكية لا تخلو من المخاطر، بل قد تكون غاية في الخطورة. اللفتات الوطنية يرجح لها دائما أن تستفز استجابات وطنية، خصوصا من قوة صاعدة، مثل الصين.
المحيّر في الأمر، هو أن الرئيس ترمب قد لا يعتزم فعلا كسر النظام العالمي الحالي، إلا أن مكمن الخطورة في أن ذلك يمكن أن ينتج عَرَضا ودون قصد، أثناء محاولة ذلك التغيير، والمشكلة هي أن الحصيلة سيّان.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES