نفاد صبر الغرب إزاء 40 عاما من تمدد «ذراع الصين الطويلة»

نفاد صبر الغرب إزاء 40 عاما من تمدد «ذراع الصين الطويلة»
نفاد صبر الغرب إزاء 40 عاما من تمدد «ذراع الصين الطويلة»

لم تكن محاولة مالكولم تيرنبول لإعادة صياغة كلمات الرئيس ماو تسي تونج الأسبوع الماضي، مجرد مثال هزلي على المسرح السياسي.
لقد شكل ذلك أيضا نقطة تحول مهمة في نقاش دام عقودا، حول كيفية استجابة الغرب لصعود الصين.
قال رئيس وزراء الأسترالي للصحافيين بلغة ماندرين الصينية "المكسرة": "أوداليا رينمين تشان كي لاي!"، ومعناها إن: "الشعب الأسترالي قد نهض الآن" – وهي عبارة تردد بشكل متعمد صدى إعلان ماو في عام 1949، حين قال: "أن الشعب الصيني قد نهض الآن"، لينهي بالتالي قرنا من الإذلال على يد المعتدين الاستعماريين.
كان تيرنبول يدافع عن قوانين أسترالية جديدة صيغت هذا الشهر، التي تهدف إلى الحد من تأثير الحكومات الأجنبية، وهي تضع نصب عينيها تحديدا الصين، التي يعتبر الحزب الحزب الشيوعي الحاكم فيها، الصانع الحقيقي للتوجهات الاستراتيجية في الخارج.
باستثناء وقفة قصيرة عقب مذبحة تيانانمن عام 1989، معظم الديمقراطيات المتقدمة كانت قد انخرطت مع الصين منذ أواخر السبعينيات، اعتقادا منها بأن الصين سوف تتكامل مع النظام العالمي بقيادة الولايات المتحدة، وستصبح في النهاية أكثر شبها بتلك الديمقراطيات، ذات الأساس الاقتصادي الرأسمالي والتوجهات الليبرالية.
على أن التجربة طوال العقود الثلاثة الماضية، أثبتت أن هذه الافتراضات تتعرض الآن للهجوم في الصين، في الوقت الذي يدرك فيه الغرب بشكل متأخر، أن الصين لا تنوي قط فتح نظامها السياسي.
وفي الوقت نفسه، فإن هناك قلقا متزايدا بشأن جهود بكين لتشكيل طريقة تفكير البلدان الغربية على أساس نموذجها الاستبدادي، أي أن الصين قد انتقلت من حالة الدفاع عن وضعها إلى وضع الهجوم، في محاولة لتصدير نموذجها إلى الخارج كبديل للوصول إلى الرخاء، بعيدا عن ليبرالية الغرب.
خلال الأسبوعين الماضيين فحسب، حذرت أجهزة المخابرات الألمانية والنيوزيلندية علنا من تهديد عمليات التجسس والتأثير الصينية في بلديهما.
وعقد الكونجرس الأمريكي في واشنطن يوم الأربعاء الماضي، جلسة استماع لبحث "الذراع الطويلة للصين".
قال ماركو روبيو رئيس لجنة تنفيذية في الكونجرس حول الصين: "محاولات الحكومة الصينية لتوجيه أو شراء أو فرض الولاء للنفوذ السياسي، أو السيطرة على مناقشة مواضيع ’حساسة‘، باتت منتشرة بشكل واسع، وتشكل تحديات خطيرة للولايات المتحدة، وحلفائنا المشتركين معنا في تقاسم قيم العقلية الليبرالية".
وفي حين يتركز اهتمام العالم على الادعاءات بالتدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية في العام الماضي، إلا أن عمليات الصين الأكثر انتشارا حظيت باهتمام أقل بكثير، حتى وقت قريب.
يقول كريستوفر جونسون، الرئيس السابق لمكتب الصين في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، الذي يعمل الآن زميلا مرموقا في مركز الاستراتيجية والدراسات الدولية في واشنطن: "العمليات الصينية أكثر براعة بكثير وأقل استهدافا وبالتالي انكشافا، وتدور أكثر حول بناء التأثير على المدى الطويل، من العمليات الروسية".
ويضيف: "في الوقت الذي نبدأ فيه بإدراك أن الصين تعتزم تحويلنا إلى اشتراكيين بدلا من أن تصبح أقرب شبها بنا، فإن النقاش في الغرب يتخذ اتجاها أكثر تشددا، والناس يتساءلون الآن عما إذا كانت أربعة عقود متواصلة من الانخراط، كانت مجرد خدعة".
بصرف النظر عن نشاط التجسس التقليدي، الذي تمارسه معظم البلدان، فإن عمليات النفوذ الصينية في الخارج، موجهة من قبل فرع غير معروف كثيرا في الحزب الشيوعي الحاكم، معروف باسم: "إدارة عمل الجبهة المتحدة".
هذه العمليات تشتمل على الجهود الرامية إلى استقطاب أو تخريب مجموعة واسعة من الجهات الفاعلة والمؤسسات، من الساسة إلى وسائل الإعلام إلى الجامعات، على الرغم من أنها تستهدف في المقام الأول جاليات الشتات الصيني – يقدر عددهم بنحو 60 مليون شخص في جميع أنحاء العالم.
يقول الخبراء الذين يدرسون الجبهة المتحدة إن الهدف الرئيسي من هذه العمليات هو عزل وتهميش كل التهديدات المتصورة، التي قد تستهدف الحزب الشيوعي من المنشقين الصينيين في الخارج، أو من الناشطين في مجال حقوق الإنسان والديمقراطية، ودعاة استقلال التبت أو الإيجور أو ممثلي جزيرتي تايوان أو هونج كونج ذات الحكم الذاتي، قبل الانتقال إلى مرحلة الهجوم لتدمير مراكزها، بالأدوات الناعمة، ما أمكن.
في السنوات الأخيرة توسع الهدف، فبات يشمل الآن جهودا لإقناع النخب الغربية والجمهور الأوسع، بمشروعية استمرارية الحزب الشيوعي وحقه في حكم الصين، منفردا على خلفية الإنجاز الاقتصادي الذي إيجاد الرخاء في الداخل، وتطبيع العلاقات من الغرب، وشبكة العلاقات الاقتصادية في مختلف بلدان الخارج.
على خط المواجهة في هذا الصراع، توجد أستراليا، حليف الولايات المتحدة منذ فترة طويلة، والشريك الأمني الحاسم في آسيا، والتي يعتمد اقتصادها القائم على تصدير السلع الأساسية، على الطلب الفعال من الصين.
وفي هذا السياق، حذر رئيس المخابرات في أستراليا أخيرا من تهديد "لم يسبق له مثيل" يأتي من الصين، ويفوق كثيرا التهديد الذي كان موجودا، حين اخترق عملاء جهاز كي جي بي السوفياتي، دوائر الحكومة خلال الحرب الباردة.
في ذلك الصراع السابق، كان الاتحاد السوفياتي يسعى للتأثير في النخب الغربية والتأثير في الخطاب من خلال جاذبيته الأيديولوجية المثالية.
إلا أن الحزب الشيوعي الصيني أكثر حداثة بكثير، ولديه من القوى الناعمة ما كان يفتقده الاتحاد السوفياتي، إذ إن لديه شيئا أكثر إغراء بكثير للديمقراطيات الرأسمالية: حجم ووعد اقتصاده الآخذ في النماء المطرد، والتوسع بما يكاد أن يكون وضعا لا متناه.
يقول ديفيد شامبو، مدير برنامج السياسة الصينية في جامعة جورج واشنطن: "يعتقد الحزب تحت حكم تشي (جين بينج) أنه ينخرط في حرب: "هوايو زانشنج"، أي ’حرب الخطاب‘ مع الغرب لكسب القلوب والعقول، إذ يظن الحزب أن حربا من تلك الشاكلة، تتمتع بمزايا الإغراء والهيمنة على وسائل الإعلام، ولا بد من التصدي للغرب عبرها".
وفي تقديره أن الصين تنفق 10 ــ 12 مليار دولار سنويا على مجموعة واسعة من جهود "القوة الناعمة" - من خلال حملات الضغط التقليدية والعلاقات العامة، إلى أشكال أكثر سرية لبناء النفوذ.
رصدت منظمة الاستخبارات الأمنية الأسترالية ما لا يقل عن 6.7 مليون دولار أسترالي من التبرعات السياسية التي أودعت لحساب الحزبين السياسيين الرئيسيين في أستراليا، من قبل مليارديرين صينيين، فحسب، ضمن الجالية الصينية ومن ذوي الصلات الوثيقة ببكين.
طفحت هذه القضية على السطح، فظهرت على جدول الأعمال السياسي في الأسبوع الماضي، مع استقالة سام داستياري، النجم الصاعد في حزب العمال، الذي استخدم تبرعات من أحد أصحاب المليارات لتصفية بعض ديونه الشخصية.
والذي شارك في مؤتمر صحافي مع وسائل إعلام صينية، طالب خلاله بلده أستراليا علنا باحترام مزاعم الصين الإقليمية في بحر الصين الجنوبي، وهو موقف يتعارض مع موقف حزبه على وجه الخصوص، وسياسة البلاد، عموما.
من جهتها، حددت منظمة الاستخبارات الأمنية الأسترالية نحو عشرة مرشحين سياسيين على مستوى الولايات والحكومات المحلية، تعتقد أن لهم علاقات وثيقة بأجهزة المخابرات الصينية، وفقا لتقارير وسائل الإعلام الأسترالية.
تعتقد وكالات الاستخبارات الغربية أن هذا مجرد جزء من حملة مدبرة أوسع من قبل بكين، لإدراج عملاء نافذين ضمن أعلى المستويات في الديمقراطيات، في مختلف أنحاء العالم.
وفي قضية نالت السبق فيها أولا صحيفتنا: "فاينانشيال تايمز" في أيلول (سبتمبر) الماضي، جاءت الإشارة إلى تمكن عضو صيني المولد من أعضاء برلمان نيوزيلندا، من الانضمام إلى اللجنة البرلمانية للشؤون الخارجية والدفاع والتجارة، على الرغم من أنه أمضى 15 عاما في التدريب والعمل، في المخابرات العسكرية الصينية، في الماضي.
كان السياسيون من كلا الحزبين مترددين في التساؤل عن كيفية تمكن جيان يانغ، من الصعود القياسي والنجاح منقطع النظير في الحياة السياسية، مع النجاح في الحفاظ على سرية خلفيته في الاستخبارات العسكرية، طوال كل هذه الفترة.
على النقيض من أستراليا، يبدو أن السياسيين النيوزيلنديين ونخبة رجال الأعمال فيها، أقل رغبة في الانتقاد العلني لأي من أعمال بكين، خوفا من إثارة استياء شريك تجاري كبير.
على أن عمل الجبهة المتحدة للصين يتجاوز كثيرا التأثير في الحكومتين الأسترالية والنيوزيلندية.
وبحسب ما يقوله روري مدكاف، رئيس كلية الأمن القومي في الجامعة الوطنية الأسترالية: "يسعى الحزب الشيوعي الصيني إلى قمع المعارضة ضمن أفراد دياسبورا الشتات، في بلدان العالم المختلفة.
والحزب يستخدم مجموعة متشابكة من الأساليب لتحقيق أهدافه: التبرعات السياسية، والسيطرة على وسائل الإعلام باللغة الصينية، وتعبئة المجتمع والمجموعات الطلابية.
وهناك الانخراط في أنشطة قسرية، تنطوي على عملاء الحزب الشيوعي الصيني، وحتى مسؤولين في القنصليات".
جنبا إلى جنب مع سياسة "الجزرة"، أي المكافآت من المشاركة الاقتصادية والوصول إلى الأسواق، تستخدم بكين أيضا سياسة العصا.
الصحافيون والساسة ورجال الأعمال والأكاديميون الذين يعتبرون "غير وديين" تجاه الصين، يتم رفض منحهم تأشيرات لزيارة البلاد، ويهاجمون من وسائل الإعلام الحكومية، ومن قبل متصيدين المدفوع لهم عبر الإنترنت، بل يستهدفون أحيانا من قبل القراصنة الصينيين.
وكثيرا ما تتعرض عائلات الطلاب الصينيين والمهاجرين الجدد للتهديد من قبل عملاء أمن الدولة في الصين، إذا ما شوهدوا يتصرفون بشكل غير مقبول لدى سلطاتهم، أثناء وجودهم في الخارج.
هناك ملياردير صيني يزعم أنه قدم تبرعات لداستياري، هو هوانج شيانجمو، مؤسس شركة تطوير العقارات في شنتزن، الذي انتقل إلى سيدني مع عائلته في عام 2011.
حتى وقت قريب، كان رئيسا للمجلس الأسترالي لإعادة التوحيد السلمي للصين، وهي منظمة تدعمها الجبهة المتحدة.
إضافة إلى التبرع للساسة، ساعد هوانج في تمويل مركز بحثي يركز على الصين في جامعة التكنولوجيا في سيدني، التي يشغل فيه بوب كار، وزير خارجية أسترالي سابق، منصب المدير.
وقد استقال هوانج في النهاية من منصب رئيس المجلس الاستشاري لمعهد العلاقات الأسترالية - الصينية، عندما تساءل بعض الأكاديميين عما إذا كان قد أصبح الناطق "الرسمي" بلسان الدعاية الصينية.
يقول المدافعون عن هذه المبادرات إن بكين تريد "أن تروي قصة الصين جيدا" فحسب، وإنها لا تتصرف بشكل مختلف عن البلدان الغربية، فمثلا تدعم الحكومة الأمريكية المنظمات التي تمول الجماعات المؤيدة للديمقراطية في جميع أنحاء العالم، في حين أن المراكز الفكرية التي تعمل في واشنطن، تنتشر فروعها الدولية في مختلف أرجاء العالم، للترويج للرؤية الأمريكية.
على أن هذه الحجة تتجاهل حقيقة أن معظم أعمال الجبهة المتحدة تتم سرا.
يقول جيري غروت، وهو خبير في إدارة عمل الجبهة المتحدة في جامعة أديلايد: "عمل الجبهة المتحدة للحزب الشيوعي يختلف كثيرا عن الجهود الغربية الرامية إلى ممارسة النفوذ - فهناك قدر من التخطيط طويل الأجل، وتنسيق مركزي بين المؤسسات العامة والخاصة، التي لا تستطيع البلدان الديمقراطية حتى أن تتخيلها، ناهيك من أن تنقلها إلى أرض الواقع".
تمارس هذه الجهود "الإنكار المعقول" باستخدام "جمعيات ومنظمات تبدو مستقلة، إلا أن أعمالها، في الواقع، تتحدد من قبل بكين".
تحقيق منظمة الاستخبارات الأمنية الأسترالية في التدخل السياسي الصيني في الشؤون الداخلية للبلاد والكشف عن قضية داستياري، دفع حكومة تيرنبول إلى إدخال تعديلات واسعة على قوانين التجسس، من أجل تقليص التأثير الأجنبي على البلاد هذا الشهر.
ومن شأن مشاريع القوانين أن تحظر التبرعات السياسية الأجنبية، وأن تضطر جماعات الضغط إلى الكشف عن الوقت الذي تعمل فيه لصالح كيانات خارجية.
ردت بكين بغضب على القوانين الجديدة، وعلى التقارير الإعلامية عن عمل بكين واسع النطاق، من خلال ذراع الجبهة المتحدة خارج البلاد.
نقل بيان صادر عن متحدث باسم السفارة الصينية في أستراليا قوله إن هذه التقارير الإعلامية: "مختلقة من الفراغ ومليئة بعقلية الحرب الباردة والتحيز الأيديولوجي، ما يعد علامة على هستيريا وشك جنوني معهود مناهض للصين".
وأضاف أن التقارير: "تعمدت تشويه - انطلاقا من انعدام الضمير - سمعة الجالية الصينية في أستراليا، بما يدلل على التحامل العنصري، الذي بدوره يشوه سمعة أستراليا، باعتبارها مجتمعا متعدد الثقافات".
ولم يتردد آخرون مناصرون للصين في أستراليا - ذات التاريخ الطويل والصعب على جبهة العلاقات العرقية - بتوجيه انتقادات واتهامات للحكومة بإثارة كراهية الأجانب، لتحقيق مكاسب سياسية، وصفوها بالرخيصة.
بيد أن المختصين بالدراسات الصينية وبعض أعضاء الجالية الصينية الأسترالية، يردون قائلين: إن تجاهل عمل الجبهة المتحدة في بكين، يمكن أن ينظر إليه على أنه شكل من أشكال العنصرية العكسية، باعتبار أن أكثر الناس تضررا من هذه العمليات، هم مواطنون أستراليون من أصل صيني.
ضمن 1.2 مليون شخص في أستراليا، يقولون عن أنفسهم إنهم ضمن الجالية الصينية، وموجودون هناك منذ عدة أجيال، جاءت نسبة كبيرة منهم من جنوب شرقي آسيا أو تايوان ذات النظام الديمقراطي، أو تركوا هونج كونج والبر الصيني الرئيسي للهروب من القمع.
ويعرب بعضهم عن انزعاجه العميق من محاولات بكين التسلل إلى منظمات جالياتهم المحلية، ويتهمونها بأنها توجد الظروف التي تدعو آخرين للاشتباه العلني بهم.
ووفقا لما يقوله فنج تشونج يي، الأستاذ المساعد في جامعة التكنولوجيا في سيدني - اعتقل في الصين عن طريق عملاء أمن الدولة لمدة عشرة أيام في نيسان (أبريل) الماضي، بسبب أبحاثه الأكاديمية عن السياسة الصينية - فإن: "كثيرين ضمن الجالية الصينية يرحبون بهذا التشريع الجديد، الذي يستهدف بوضوح أفعال الحكومات الأجنبية بدلا من أي أفراد أو جاليات. إذا لم تكن الحكومة الصينية تتدخل في السياسة الأسترالية، فلماذا تشعر بالقلق إلى هذه الدرجة؟ ولماذا تستميت من أجل تصوير ذلك، على أنه دعاية مناهضة للصين؟".

الأكثر قراءة